رحبت بالشاب المصري الذى طلب مقابلتي فى مكتبي بالسفارة المصرية - قبل سنوات – فى تلك البلد الأفريقية دون سابق ميعاد أو سابق معرفة. وقد بدا الشاب هادئا هدوءا زائدا إلى حد ما. عزمت على ضيفى ببعض المشروبات ولكنه لم يبال . سكت بدوري لأتيح لضيفى فرصة للحديث، وقتما يشعر بالرغبة فى ذلك أو تتاح الفرصة لى لابدأ الحديث. مرت دقائق وضيفى جالس أمام مكتبي متسمرا فى مكانه وقد نظر إلى سقف الغرفة، كأنما يستطلع شيئا أو يتذكر شيئا أو يصارع فكرة فى رأسه في سكون. ورحت أرمق الشاب بنظرات فاحصة، بينما أرتب بعضا من أوراق مكتبى برفق وأنتظر ما قد يقول الضيف وأتحين فرصة لألقى سؤالا لعلنا نعرف ما نحن بصدده.
قال الشاب فجأة: معذرة لقد أقحمت نفسي عليكم اليوم دون مقدمة، وأشكركم على استقبالي سريعا.
والواقع أني لم أنتو المجيء هنا أبدا. فقط وصلت منذ عدة أيام إلى البلد الأفريقي المجاور لأنهي بعض التعاقدات التجارية، وقد تم كل شىء بنجاح. وبالأمس أبلغني صديق لي أن شركة ما في هذا البلد قد ترغب في التعاقد معنا. ولم أشأ الانتظار حتى الغد أو بعد غد لأخذ الطائرة إلى هذا البلد. فالمسافة بالطائرة ساعتان أو أقل. وقد ظننت أن باستطاعتي أن أخذ سيارة تقطع الطريق البري بين البلدين، فأكسب وقتا وأوفر مالا وأخوض مغامرة صغيرة أحكيها ربما عندما أعود أدراجي إلى مصر. وقد رتب لى البعض ممن اتصلنا بهم سيارة خاصة تقلنى إلى هذه المدينة خلال سويعات الليل الهادئة.
كان الشاب يتكلم، بينما أتطلع إليه وإلى ملامحه وهى تتبدل ما بين الراحة والتوتر والخوف. قال: كنت سعيدا بمغامرتي الصغيرة، بينما تحركت السيارة التي وضعت فيها حقيبتي التى حوت أوراقى الهامة، وما معي من مال وجواز سفر، وما وقعته من عقود وملابس قليلة. فلا حاجة بي إلى كثير من ملابس في أيام عمل معدودات. ورحت أتجاذب اطراف الحديث مع السائق الأفريقي الطيب الذي لم يلق إلى كثيرا من بال، بينما انصرف قلبا وقالبا إلى الطريق التى تنهبها السيارة في ظلام آخذ فى الازدياد حتى لم أعد أرى شيئا سوى شعاعي النور المنطلقين من فانوسي السيارة الأماميين . وكلما غفوت أفقت على هزة قوية، كأن السيارة تهبط جبلا أو تقفز حواجزا متتالية في سباق لا يتوقف.
عاودت سؤال ضيفى اذا كان يريد أن يشرب شيئا من ماء أو عصير فوافق أخيرا معبرا عن شكره، ثم سكت لحظة طويلة، كأنما يستعد لحدث كبير فلم أقاطعه، لأعرف سر ما حاق بهذا الرجل من ظروف تركته على هذه الحال الغريبة، فمهما كانت خبرات المرء ممتدة، فلن تسعفه فى التعرف على مفاجآت الواقع. اعتدل ضيفى فى مجلسه قليلا وقد تبدلت ملامح وجهه المرتخية إلى ملامح خائفة متحفزة: انتبهت فجأة إلى يد السائق تنبهنى برفق من غفوتى التي سقطت فيها من التعب. نظرت إلى السائق متسائلا عما يريد بإيقاظي ، فاذا هو خائف جاحظ العينين يومئ لي برأسه أن أنظر أمامك!
نظرت أمامي غير مبال متسائلا عما عساه يكون سبب هذا الخوف ، فلم أرى شيئا. قال السائق أنظر أمامك جيدا ! فعاودت النظر في قلب الظلام الدامس لأرى عشرة تقريبا من الملثمين يحملون سيوفا وبنادق كأننا في فيلم سينمائي ولسنا في الطريق بين بلدين.
لوح الملثمون لسيارتنا بأسلحتهم لتهدئ وتتوقف تماما. وقد طافت بمخيلتي كل الأفكار السوداء التي يمكن أن تخطر ببال في مثل هذه الظروف المخيفة، ولعنت اندفاعى الذى ساقنى إلى ذاك الموقف الرهيب، وقد راح السائق يهدئ سرعة السيارة تماما فى استسلام وخنوع . فلا شىء حولنا ينبئ بحياة أو بفرصة للنجاة ممن يقفون قبالتنا بأسلحتهم ولثامهم وعيونهم المثقوبة كأنها عيون الشياطين. فاقترب أحد الملثمين في ثبات من سيارتنا التي رست وتوقفت تماما عند قدميه، ليمد قاطع الطريق يده إلى داخل السيارة ليبطل موتورها ويسحب المفتاح من مكانه ويقبض عليه بقوة ويشير الينا بحزم أن أهبطا من السيارة فورا.
أحسست بأطرافي تتجمد لبرهة، ولم أكن جبانا، ولكن من لا يفزع من رؤية عشرة رجال ملثمين مسلحين قاطعين للطريق في ظلمة قاحلة ؟ وما الجبن وما الشجاعة إذا قتلت فى هذا المكان الموحش دون أن يعرف أحد حتى مكاني؟.. فتحت باب السيارة ونزلت بهدوء وتبعني السائق فى خوف وتردد. هجم علينا الملثمون فجأة ودون كلمة ، وأنتزعوا حقيبتي وما معنا وما كنا نرتدي، لنبقى وقوفا بملابسنا الداخلية. رحت أتمتم بكلمات الشهادة في غير وعي عندما ضحك الملثمون بصوت مجلجل وهم يشيرون الينا أنا والسائق ، ثم ألقى أحدهم الى السائق بمفتاح السيارة ملوحا لنا بسلاحه أن امضوا من هنا فورا. لم أصدق أنا والسائق نفسينا وقفزنا معا في السيارة، ليدير السائق محركها وينطلق بنا كأننا تمثالان من الخشب يقودان سيارة ، فلم ننظر الى الخلف أو اليسار أو الى اليمين أبدا حتى وصلنا الى هذه المدينة شبه عاريين . لا أوراق ولا نقود ولا جواز سفر ولا ملابس . وكان يمكن أن تنتهي بي الرحلة قتيلا على أرض غابة موحشة تنهشه الوحوش . الآن عرفت أن أفريقيا للعمل وليست للمغامرة.