«الحوت الكبير فى محيط السياسة المصرية دخل فى الشبكة وإنه على وشك اصطياده فعلا، وبما يكفل محاكمته ووضعه وراء قضبان السجن»..«الحوت المقصود» هو أحمد عبود باشا أحد أكبر الرأسماليين فى مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952، والاعتقاد بقرب اصطياده كان لدى وزير المالية الدكتور زكى عبدالمتعال، وقاله لرئيس وزرائه «نجيب باشا الهلالى»، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه سقوط نظام، الصادر عن دار الشروق.
لم يكن قول وزير المالية لرئيس وزرائه تعبيرا عن صراعات شخصية، أو محاولات لوقف عجلة الاستثمار، وإنما عبر عن قصة تزاوج الثروة بالسلطة وقتئذ.
قصة «الحوت الكبير» و«قرب اصطياده» وتأثيره الطاغى على الملك فاروق وحزب الوفد، ومجريات السياسة المصرية قبل ثورة 23 يوليو 1952 يذكرها «هيكل»، مشيرا إلى أنه فى يوم 29 فبراير 1952، أسند الملك فاروق مهمة تشكيل حكومة جديدة إلى نجيب باشا الهلالى، وأعلن الهلالى عن تشكيل حكومته فى اليوم التالى «1مارس»، ويراه هيكل: «من أذكى رجال ذلك الجيل الذى ظهر على مسرح السياسة المصرية فى عصر ما بين الثورتين الكبيرتين فى القرن العشرين «ثورة 1919، وثورة 1952».. ويصفه قائلا: «كان فكره مرتبا بمنطق القانون الذى درسه واشتغل به محاميا لا يقف كثيرا فى ساحات المحاكم، وإنما يجلس طويلا وراء مكتبه يصوغ المذكرات القانونية بصبر دؤوب لا يعرف الكلل».
قبل «الهلالى» تكليف الملك بتشكيل الحكومة، وطرح شعار «التطهير قبل التحرير»، وقال فى رده على التكليف: «إن وزارته سوف تبذل قصارى الجهد فى تحقيق الأمانى الوطنية، لكنه لا بد من إدراك أن النجاح فى هذه الأمانى الوطنية يقتضى تطهير الحياة السياسية فى مصر من الفساد ، ومحاسبة المسئولين عن الانحراف بالفساد أو بالتستر عليه، وإذا لم يقع هذا الحساب فإن الآثار سوف تكون فادحة على فكرة العمل العام، لأن بعض الساسة احترفوا السياسة وسيلة من وسائل الثراء تمارس بغير حياء».
بدأ «الهلالى» فى تطبيق شعار «التطهير»، فأعلن عن إجراءات التحقيقات مع وزراء الوفد وأنصاره أثناء تولى النحاس باشا رئاسة الحكومة فى الفترة من 12 يناير وحتى 27 مارس 1952، مما فتح عليه باب النقد والهجوم، غير أنه لم يكن مستعدا لقبول الهزيمة، فراح بداية من شهر إبريل يكثف الحملة على الفساد، واعتقد أنه يستطيع أن يحقق اختراقا كبيرا فى حال لو تم اصطياد «عبود باشا»، فكيف سارت خطة «الاصطياد»؟.. وهل نجحت؟.
يجيب «هيكل» معتمدا على الملف البريطانى فى وزارة الخارجية البريطانية بشأن إقالة «الهلالى»، وملخص الوقائع فيه: «أن حكومة الهلالى راحت تطالب عبود بضرائب متأخرة مقدارها 5 ملايين جنيه، ناشئة عن أرباح ورسوم إنتاج مستحقة على شركة السكر التى يملكها، وأحس عبود بالخطر فراح يشكو أن الوزارة تريد أن تستولى على شركته وتصادر مصانعه، وذلك يسبب له مشاكل مالية كبيرة لا تتأثر بها مصالحه فى شركة السكر وحدها، وإنما فى غيرها كذلك».
قلق «عبود باشا» من ضغوط الوزارة عليه، وفقا لهيكل، فرأى «أن يفاتح القصر باستعداده لدفع مليون فرنك سويسرى (ما يساوى وقتها مليون جنيه مصرى)، إذا خرج «الهلالى باشا» من الوزارة، وأفضى عبود باشا بهذا العرض لصديقه «إلياس أندراوس» المستشار المالى للملك فاروق، ولجأ «عبود» إلى هذا العرض بعد أن علم أن فاروق طلب من «أندراوس» توفير مبلغ مليون فرنك سويسرى لتغطية مصاريف إجازته الصيفية المقبلة فى أوربا «حتى لا يسحب من أرصدة الخاصة الملكية».
وبدأت خطوات التنفيذ الفعلى بتحويل الـ«مليون فرنك سويسرى» إلى حساب خاص فى جنيف بسويسرا، ورصدت غرفة المقاصة فى نيويورك هذا التحويل، وقامت الحكومة الأمريكية بالإخطار عنه، وكذلك تم رصد تحويلات مفتوحة من حساب «عبود» إلى حساب مستشارى الملك فاروق الثلاثة «كريم ثابت المستشار الصحفى»، و«إلياس أندراوس» و«أنطون بوللى»، متعهد الحفلات الخاصة للملك، ووصل خبر هذه التحويلات إلى «الهلالى باشا»، فطلب مقابلة عاجلة مع الملك فاروق، وأخذ معه مذكرة بما لديه من تحويلات، وعرض الموضوع على الملك، وطبقا لهيكل: «لم يكن الهلالى يعرف أن الملك شخصيا على علم بالصفقة ومشارك فيها»، ويضيف هيكل: «طلب الهلالى من الملك ترتيبا على ما عرضه عليه أن يتم الاستغناء عن خدمات الثلاثة «كريم ثابت، إلياس أندراوس، أنطون بوللى».
رفض الملك طلب رئيس الوزراء بحجة أن هذه الاتهامات مجرد شائعات، وأن المعلومات الخاصة بها ملفقة، وأن هؤلاء الثلاثة الذين يطالب بإخراجهم أخلص الناس فى خدمته، ولا يستطيع أن يستغنى عنهم، وكان على الهلالى أن يقرر لنفسه مايريده، وكان قراره أن يستقيل فى مثل هذا اليوم «30 يونيو 1952» حسبما يؤكد هيكل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة