المعارك الأدبية والأزمات بين المثفين، ليست ظاهرة حديثة، فمنذ فترة ازدهار الأدب فى مطلع القرن الماضى، شكلت الخصومة بين كبار الأدباء والمثقفين وجها أدبيًا وإبداعيًا، بينما اتجهت المعارك فى فترتنا الحالية إلى النميمة والسب والقذف، وبدلا من تبادل الآراء بالحجة، يوجه بالشتائم والألفاظ الخارجة.
فى الماضى كانت أزمات المثقفين كانت تبدأ بطرح وجهة نظر حول عمل أدبى أو إبداعى لأديب معين، ومهما كان وجه الاختلاف، كانت الإبداع والأدب هو السبيل الوحيد للرد، فترى العقاد يرد على طه حسين بمقال، والعقاد مع المفكر والأديب اللبنانى مارون عبود، وغيرهم، بالمقالات والكتب والدراسات، لكن الآن بدلا من هذا الوجه الجميل، يظهر وجها أكثر قبحا ملئ بالسخرية والنميمة وتبادل السب والقذف، وظهر موقع مثل موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" لساحة لتراشق والألفاظ بين مثقفى هذا العصر، بتبادل الشتائم بدلا من تبادل المقالات والأراء القوية والإبداعية.
وبحسب الأديب أنور الجندى فى كتابه "المعارك الأدبية فى مصر منذ 1914-1939"، مثلت المعارك الأدبية قطاعًا حيًا من قطاعات الحياة الفكرية فى الأدب العربى، كانت له أهميته وخطورته فى مجال النثر والشعر واللغة العربية والقومية العربية ومفاهمي الثقافة نقد الكتب الأدبية.
ويوضح المفكر الراحل أن المعارك تلك دارت فى البداية بين المحافظين والمجددين، ثم دارت بين المجددين أنفسهم، متظرفيهم ومعتدليهم، وقد انتظمت موضوعين هامين: "معركة مفاهيم الثقافة، ومعركة مفاهيم الأدب، وكان أبرز أعلامها فى معسكر المحافظين أحمد زكى باشا وفريد وجدى، والرافعى، ومحمد أحمد الغمراوى، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، بينما فى معسكر المجددين: العقاد والمزنى وزكى مبارك وهيكل وطه حسين وسلامة موسى.
ولفت "الجندى" إلى أن المعارك بدأت منذ وقت مبكر وبالتحديد عام 1914، برسالة منصور فهمى التى قدمها للدكتوراه فى باريس وهاجم فيها الإسلام وموضوعها "حالة المرأة فى التقاليد الإسلامية وتطوراتها" وقد كتبها تحت إشراف أستاذ يهودى هو ليفى بريل"، وكانت تلك الرسالة فاتحة اتجاه اطلق عليه بعد ذلك التغريب سار فيه كثيرون من بينهم: طه حسين، محمود عزمى، سلامة موسى، على عبد الرازق، إسماعيل أدهم، عبد العزيز فهمى، ولطفى السيد.
وكانت تلك المعارك خيرا للأدب، فقد حثت على التجويد وفتحت السجال والنقد ومعارضة الآراء على نحو شيق، كشفت عن ى يقة النفوس، وطبائعها، وأبان عن الزيف والصحيح.
فمعركة مثل التى دارت بين الأديب مصطفى صادق الرافعى وعميد الأدب العربى طه حسين، بدأت عند صدور كتاب الرافعى "تاريخ آداب العربية" وانتقده الدكتور طه حسين عام 1912، واشتدت المعركة حين أصدر الرافعى كتابه "رسائل الأحزان"، وانتقده أيضًا الدكتور طه حسين بشدة قائلا: "إن كل جملة من جمل هذا الكتاب تبعث فى نفسى شعورا قويا مؤلما بأن الكاتب يلدها ولادة وهو يقاسى من هذه الولادة ما تقاسى الأم من آلام الوضع".
بدأت معركة العقاد مع طه حسين، من خلال رسالة الغفران، حول فلسفة أبي العلاء المعري، حين كتب العقاد عن الخيال في رسالة الغفران، "إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق طريف في النقد والرواية وفكرة لبقة لا نعلم أن أحدًا سبق المعري إليها، ذلك تقدير ى موجز لرسالة الغفران". واستفزت هذه الكلمة طه حسين، فكتب يقول: "ولكن الذي أخالف العقاد فيه مخالفة شديدة هو زعمه في فصل آخر أن أبا العلاء لم يكن صاحب خيال فى رسالة الغفران، هذا نُكر من القول لا أدري كيف تورط فيه كاتب كالعقاد"، ثم أصدر بعدها "بواعث الصمت".
وقد كان للمعارك الشعرية نصيبها من قائمة المعارك الأدبية التي أخذ النقد منها نصيب الأسد، ومن أهم تلك المعارك معركة هيمنة محمود سامي البارودي على كل من جاءوا من بعده وخلفوه في نظم القصيدة العربية المعاصرة، ومعركة ريادة الشعر العربي الحديث في العراق بين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة التي تدخل فيها كذلك البياتي وبلند الحيدري مطالبين بى الريادة.
ومن بين المعارك الكبرى التي عرفت في تاريخ الأدب العربي الحديث معركة قصيدة النثر التي خاضها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي مع العقاد.
كما أن من بين المعارك أيضا التى دارت، كانت بين الأديب العالمى نجيب محفوظ والأديب الكبير عباس العقاد، ودارت تلك المعركة في شهور عام 1945، حينما كتب المفكر الكبير العقاد، في كتاب "فى بيتي"، بعضًا من آرائه، متصورًا أنه يجري حوارًا مع نفسه، وقد سألتْه نفسه عن سبب قلة الروايات في مكتبته، فقال لها: إن الشعر أنفس من الرواية بكثير، و“محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة"، وحينها ردّ الأديب الناشئ آنذاك نجيب محفوظ، في صرامة وحِدَّة، معتبرًا ما كتبه الكاتب الكبير في السن والمقام العقاد، اتهامًا موجهًا لما يكتبه شخصيًا، ويعتبره طريق حياة، حيث كتب مقالًا اسمه "القصة عند العقاد".
وفى النهاية لم يردَّ العقاد على نجيب محفوظ، واكتفى بالصمت، ربما عن تعال واستصغار لشأن أديب ناشئ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة