"بالله اعملوا قبر المليح مليح/ شبّاك بحيرى يخشّ منه الريح"..
بعدّودة صعيدية استهلّ الروائى والكاتب الصحفى أحمد إبراهيم الشريف روايته "طريق الحلفا"، الصادرة عن "منشورات الربيع" خلال العام الجارى، ليقدّم للقارئ نصًّا ينشغل بالموت، الذى حضر بطلا موازيا لأبطال روايته النابعة من قلب الصعيد المفعم بالدماء ونيران الثأر.
فى البداية، ظننت أن معاناة "فاضل" ستنتهى بعدما انزوى شبابه تحت تراب المقابر الناعم، أو المنامات كما عرّفها "الشريف" فى الرواية. اعتقدت أن موت البطل فى أول القصة قد يقودنا إلى مسار "الفلاش باك" ليستعرض حياة البطل، ولكن خالف الكاتب توقعاتى، وبعدما غادر مشيّعو "فاضل" المقابر، جلس يُسجّل بقلمه حياة الميّت بعد رقدته الأخيرة فى المنامة، ليقدم للقارئ نصًّا يمتزج فيه الواقع بالخيال، نصًّا شديد الواقعية فى فصله الأول، الذى أراه أفضل فصول الرواية، وأكثرها نجاحا فى تقديم الجوانب الإنسانية للشخصيات، بسرد بليغ ولغة بسيطة ومعبّرة، وأعتقد أن جانبا كبيرا من خواص تلك اللغة اكتسبه الكاتب من احتراف الصحافة، التى ربما تشكل أحيانا سلاحا ذا حدّين للأدباء، فأسلوبها التقريرى الجاف ربما ينزع روح الخيال ويجرد اللغة الأدبية من جمالياتها الخاصة، لكن تلك الحرفة تُكسب صاحبها فى الوقت ذاته مهارة التعبير المكثف عن أدق المشاعر، وتضمن له دوما الارتباط الوثيق بقضايا المجتمع وشواغله.
العمر الأول.. سكك مفروشة بالدم
ساعة الطلوع طلعوا عُزاز وملاح
ساعة الرجوع رجعوا على الألواح
فى الفصل الأول اختار "الشريف" العديد الصعيدى؛ ليفتتح به حكاياته الصغيرة التى نسجت أجمل فصول الرواية، وأكثرها حزنا أيضا، فن العديد الصعيدى يذبح القلب ذبحا، فيصنع حُزنا يليق برحيل شاب نهش المرض جسده سريعا.
"فاضل" بطل طريق الحلفا، شاب فقد أمه وهى ما تزال على قيد الحياة، بعدما فقدت عقلها واتزانها بعد ضياع ابنتها، ثم رحيل أبيه حزنا عليها. شاب صعيدى يعيش غريبا على أطراف المدينة، يقرر العودة إلى قريته، إذ يُدرك أنه لن يقوى على مواجهة السرطان الذى ينهش جسده وحيدا، فقرر أن يموت وسط أهله، فالمعركة محسومة لصالح غريمه بشهادة الأطباء.
فى أجواء الثأر والقتل والدماء التى تُلوّن حكايات الصعيد، تدور أحداث الفصل الأول، فيُقدّم أحمد إبراهيم الشريف للقارئ عائلتى سليط وحمدون. ينتمى "فاضل" إلى الثانية، وبعد استقبال فاتر من العائلة لابن الأخ العائد، دون معرفة سبب عودته، تتصاعد الأحداث عندما يقتل خضير حمدون "عم فاضل" سلمان سليط، ويهرب، ثم يموت فاضل، فيخشى أهله الخروج بالجثمان إلى المقابر تجنبا لانتقام سعد سليط بعد مقتل أخيه، فيلجأون إلى طريق الحلفا، الطريق المهجور الذى يقود إلى المقابر. يتسلّلون ليلا ليسلموا أمانتهم لفم القبر المفتوح، ويهيلون عليه التراب، ثم يعودون قبل أن ينالهم غدر عائلة سليط.
فى الفصل الأول استطاع "الشريف" رسم سلسلة العلاقات الاجتماعية داخل العائلة، بين ابن الأخ العائد ليموت بين أهله، وجدته، ونساء الأمام، حتى أطفال الدار، محاكاة واقعية لنموذج بيت العائلة بالصعيد.
يزداد ارتباطنا بالرواية كلما ازدات قدرة الكاتب على التعبير عن مشاعر شخوصه، وصياغة جمل حوارية تنبض بالحياة، وهو ما نجح فيه "الشريف" خلال الفصل الأول، باقترابه الشديد من الواقع، حتى أن إحدى الجُمل التى جاءت على لسان الطبيب فى الرواية، كانت مشهدا مكررا من طفولتى، فجاء على لسان "فاضل" قبل موته: "بعد أن أخبر الطبيب عمى خضير أمامى، وبصوت فرقع مثل طبلة حرب، وصنع فى ذهنى تهويمات وتخيلات للجلادين ولمُنفّذى حكم الإعدام:
- لا تأتوا به مرة أخرى، لن تناله سوى "البهدلة"
دمعت عينا عمى خضير، ثم علا صوت نحيبه، وكنت أعرفه لا يبكى أبدا، ظن أننىفى غيبوبة لا أعى".
عندما وقعت عينى على تلك الجملة، شعرت كأن الكاتب قد مدّ يده وانتزع تلك العبارة من طفولتى، ونفض عنها التراب، وأضاف إليها بريق الكلمة المكتوبة، ووضعها هنا. سمعتها من أبى متحدثا عن أخيه بعد عودتهم من آخر زيارة للمستشفى. قال الطبيب كلمته فى الصباح لأبى: "لا تاتوا به ثانية لن تناله سوى البهدلة"، فعادوا إلى البيت قبل الظهيرة، وسلّم عمّى أمانته فى المساء.
يسيطر الموت على الأحداث، سواء جاء قتلا أو مرضا، تعدّدت الأشكال وظلّ الموت السبيل الوحيد للقاء من جديد فى المنامات. منح "الشريف" ملاك الموت عدة صور، وأكثر من هيئة. أعطاه بعضا من الروح التى حضر ليقبضها، فعندما انتزع روح أم "فاضل" تخيّله عصفورا رقيقا، بينما صوّره "فراشة" بألف لون عندما قبض روح العايقة زوجة حمدان خضير. أما "فاضل" نفسه فقد جاءه ملك الموت عصفورا بجناحين مُلوّنين تتملّكه رعشة المبتدئين، كما وصفها الكاتب بقوله: "عندما حطّ العصفور الملون على النافذة، نقر شجرة الفيكس، فبكت، وقف على طرف السرير وحكى وهو يتقدم ناحيتى:
- ساعدنى، بى رجفة المبتدئين".
أما سلمان سليط الذى مات على يد خضير حمدون، فحضر ملكه على هيئة غراب بجناحين أسودين كبيرين، كما تقول الرواية: "كان سلمان معافرا يتلوى، حتى أجهد ملك الموت، الذى ربما تذكّرنى حينها فناجى ربه: (سبحانك يا رب، مررت فى طريقى على ضعيف، روحه على شفا أنفه، لو بسطت لها يدى لسالت مثل بئر فاض ماؤها، لا طوق يحميها من التسرّب، فإذا بى أجثم على ثور لا أول له ولا آخر".
العمر الثانى.. الضوء مهلَكة
فى الفصل الثانى يدخل" الشريف" بالقارئ إلى ما بعد الموت، فىرأيى أنه أقل أجزاء الرواية إمتاعا، حاول فيه تقديم مسرح الأحداث الجديد. المنامات كما أسماها. وبعد تجاوز استعراض المكان، وسكانه، يصل إلى مساحته المميزة، الحكى، عبر ثلاث حكايات فى ثوب قصة قصيرة، صاغها بسلاسة داخل نسيج الفصل الثانى؛ لتصبح أجمل أجزاء الفصل، وتُعوّض كثيرا من الإطالة فى تقديم المنامات ببدايته.
العمر الثالث.. السراديب السبعة للحياة المديدة
فى الفصل الثالث يواصل الكاتب إبحاره فى حكايات مجتمع ما بعد الموت "المنامات". يُنفى "فاضل" إلى السراديب الخلفية دون أن يعرف السبب، حيث يُعاقب المخالفون والمغضوب عليهم. الغريب أن يجد والده هناك، رغم رقّته وطيبته. فيكتشف أن عالم ما بعد الموت لا يختلف كثيرا عن الحياة ذاتها، بما فيها من ظلم وأحقاد، فيقرر سكان السراديب الخلفية الثورة على حاكم المنامات، والخروج من منفاهم إلى السراديب الأمامية.
إيقاع السرد فى الفصل الثالث يتشابه مع بداية الفصل الثانى، عند تقديم المنامات والتعريف بسكانها، ولكن جاءت قصة "زين" لتلعب دور الحكايات الثلاث السابقة لمسؤولى الضوء، وتُشكّل أفضل أجزاء الفصل.
العمر الرابع.. ذاكرة تُغطّيها الحلفا
فى الفصل الرابع تكتمل ملامح حياة "فاضل"، بعدما غابت عنه كثير من ذكرياته مع أول أيامه فى المنامات، فجاءت قصة موت أمه عذبة وجذابة، إلى جانب قصة حب خضير حمدون والعايقة وزواجهما، وحكاية سلمان سليط لتفاصيل مقتله، حكايات إنسانية عذبة، أظهرت أبعادا إنسانية فى شخصيات تمتهن القتل حرفة، مثل خضير وسلمان.
تضافرت مجموعة الحكايات، لتكتمل بانوراما العلاقات الإنسانية داخل الرواية، وتصبح أكثر وضوحا للقارئ، وتأتى النهاية بتعاون أهل المنامات على اختلافهم ضد قرار المحافظة بهدم المقابر لشق طريق جديد.
فىرأيى أن إشكالية إزالة المقابر التى برزت فى نهاية الفصل الرابع، كان يمكن أن تأخذ حيزا أكثر أهمية ودرامية داخل النص، وربما شكّلت مُحرّكا رئيسيا للأحداث داخل المنامات. ورغم إتقان "الشريف" نسج حكايات أبطاله، إلا أن بعض جزئيات وخطوط الفصل الرابع عانت قدرا من البتر، مثل قصة زواج خضير والعايقة، وقتل على عويس لـ"عابد".
"طريق الحلفا" صورة مُصغّرة لواقع العلاقات الإنسانية المتشعّبة فى قرى الصعيد، صيغت بلغة سلسة وأسلوب ممتع، لتقدم للقارئ حكايات الغربة والفقد والثأر والقسوة، ومحاولات إخفاء الضعف وراء نيران البارود، ويبقى الموت دوما هو الحقيقة الوحيدة على امتداد الصعيد المرّ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة