فى الوقت الذى وافق فيه البرلمان الأوروبى على تعيين وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين، فى منصب رئيس المفوضية الأوروبية، كأول امرأة تتولى المنصب فى تاريخ الاتحاد الأوروبى، اختارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، رئيسة حزب الاتحاد المسيحى الديمقراطى أنجريت كرامب كارينباور، لتترأس وزارة الدفاع الألمانية، وهى الخليفة المحتمل لها فى منصبها بعد انتهاء فترتها فى عام 2021، وربما قبل ذلك، فى ظل ما يثار حول الوضع الصحى لميركل فى الوقت الراهن، مع تكرار حالة الرعشة الغامضة، والتى التقطتها الكاميرات فى مناسبات عدة بالآونة الأخيرة، والتى أثارت تساؤلات حول ما إذا كانت "المرأة الحديدية" قادرة على مواصلة مهامها لسنتين قادمتين أم لا.
يبدو أن الاختيارات الجديدة، سواء أوروبيا أو فى الداخل الألمانى، تحمل إشارة مغزاها رهان أوروبا الموحدة ودعاتها، وعلى رأسهم ميركل، على المؤسسة العسكرية فى المرحلة المقبلة، لمجابهة التيارات اليمينية، والتى شهدت صعودا كبيرا فى السنوات الأخيرة فى العديد من دول القارة العجوز، وهو الأمر الذى امتد من مجرد الهيمنة على مؤسسات الحكم فى الداخل، إلى السيطرة على المؤسسات الأوروبية، وهو ما بدا واضحا فى المكاسب التى حققها اليمين فى البرلمان الأوروبى فى الانتخابات الأخيرة، وهو الأمر الذى يشكل تهديدا صريحا للاتحاد الأوروبى وما يحمله من قيم ليبرالية، فى ظل النهج اليمينى المناوئ للمؤسسات.
ولعل اختيار وزيرة الدفاع الألمانية لرئاسة المفوضية الأوروبية يمثل انعكاسا صريحا لأولويات عسكرية لدى الاتحاد الأوروبى فى المرحلة المقبلة، فى ظل تنامى التهديدات، ليس فقط نتيجة الصعود الكبير للتيارات اليمينية المتطرفة، وإنما أيضا بسبب تطورات دولية وإقليمية، تفرض على أوروبا ضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتى عسكريا، وذلك بسبب تفاقم خطر الإرهاب، بالإضافة إلى التلويح الأمريكى المتواتر لحلف الناتو، والذى وصل إلى حد طرح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فكرة الانسحاب من التحالف الذى يمثل رمزا للمعسكر الغربى لعقود طويلة من الزمن، وهو الأمر الذى قد يترك القارة العجوزة فى خطر أمنى محقق، فى ظل الاعتماد شبه الكلى على الحماية الأمريكية المجانية.
الرهان الأوروبى على المؤسسة العسكرية ليس وليد اللحظة، فقد سبق للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، والذى يعد أحد دعاة أوروبا الموحدة، وأن أعلن حاجة القارة العجوز لجيش موحد، لمواجهة التهديدات المحيطة بالقارة، وعلى رأسها الصين وروسيا، إلى جانب الولايات المتحدة، وهو التصريح الذى أثار غضب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بدرجة كبيرة، خاصة وأن ماكرون وضع واشنطن فى نفس الكفة مع خصوم الغرب التاريخيين.
وزيرة الدفاع الألمانية السابقة حظت بدعم مشترك من قبل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلى جانب الرئيس الفرنسى، وهما أبرز المؤمنين بأوروبا الموحدة، فى انعكاس صريح لحاجة الكيان الأوروبى المشترك للقيادة القوية التى يمكنها مجابهة التحديات عبر اتخاذ إجراءات من شأنها مزيد من الوحدة بين أعضاء الاتحاد، خاصة فيما يتعلق بالجانب العسكرى، وهى الرؤية التى سبق وأن روج لها ماكرون، خاصة وأن السياسية الألمانية لعبت دورا رئيسيا فى تعزيز التعاون الدفاعى بين برلين وباريس فى سنوات وجودها بوزارة الدفاع الألمانية والتى بدأت منذ عام 2013.
ولكن فى الوقت الذى يصبح فيه الجيش الأوروبى الموحد حلم الاتحاد الأوروبى، ربما لتمكين القارة من الدفاع عن مصالحها الجماعية، تبقى جيوش الدول الأعضاء أولوية قصوى، خاصة وأنهم سيمثلون نواة الحلم الجديد للاتحاد من ناحية، وكذلك باعتبارهم صمام الأمان للدفاع عن المصالح الوطنية لتلك الدول، وهو الأمر الذى يمثل أولوية قصوى للتيارات اليمينية فى المرحلة المقبلة، حيث أن فكرة الجيش الموحد لا تروق لهم فى ظل توجهاتهم القومية والتى تقوم فى الأساس على حماية الحدود من قبل القوات الوطنية من الأخطاء التى تواجهها كالإرهاب وزيادة المهاجرين.
يبدو أن تلك الرؤية لم تكن غائبة عن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتى قررت أن تضع خليفتها المحتملة أنجريت كرامب كارينباور، باعتبارها الرئيسة الحالية للحزب الحاكم، فى منصب وزير الدفاع فى برلين، فى محاولة لتأهيلها لقيادة ألمانيا من بوابة المؤسسة العسكرية، فى المرحلة المقبلة، خاصة وأنها ربما لم تحظى بقبول كبير منذ فوزها برئاسة الحزب فى العام الماضى، بعد النتائج المخيبة للأمال لحزبها فى انتخابات البرلمان الأوروبى الأخيرة.
وهنا يمكننا القول بأن الرهان الأوروبى، سواء على المستوى الجمعى أو الفردى، يدور حول قوة الجيوش، فى محاولة لاحتواء التهديدات سواء فى الداخل والتى تتمثل فى صعود التيارات اليمينية والتى ترى أن التيارات الليبرالية التى قادت القارة لعقود طويلة تتحمل مسئولية التحديات الأمنية الكبيرة التى تواجههم فى الداخل، بسبب سياسات الحدود المفتوحة، والتى سمحت بدخول عناصر متطرفة للقيام بعمليات إرهابية داخل أراضيهم، أو على المستوى الدولى نتيجة احتمالات تفكك الناتو أو على الأقل إضعافه مع تواتر التهديدات الأمريكية بالانسحاب منه منذ صعود ترامب إلى البيت الأبيض.