جدتى:
إنها المرأة التى تزوجت غريباً عن بلدها وارتحلت معه لقريته الصغيرة لتكون زوجته الثالثة فى زمن كان زواج الرجال المتعدد مقبولاً.. لتستوطن هناك.. وتنجب أبناءها الثمانية (إمبراطورية سين) فى بداية أربعينيات القرن الماضى..
كانت امرأة قوية لدرجة أن بيوت جدى كانت تسمى باسمه إلا بيتها كان يسمى بيت المصرية (فى زمن كانت التقاليد تمحو اثر كل تاء تأنيث)... إلا جدتى.
كانت امرأة حداثة... لها صور بكلبها اللولو وثوب السباحة ذو القطعة الواحدة فى جمصة (إذ كانت مصيفاً ملكياً آن ذاك) كانت تكتب تحت اسم مستعار فى جريدة بنت الشاطئ وقيل مصر الفتاة (لم أجد دليلاً فى مصر الفتاة بعد).
قرر ذلك الغريب الذى تزوجته ان يكمل مسيرة زوجاته فتزوج الرابعة ذات الثامنة عشر عاما... و لم يحسب حساب امرأة كبرياءها يعلو فوق زمن الرجال.... و اصرت على الطلاق. و كان لها.
وقرر أبو الأبناء الغريب أن يكسر كبرياءها فى أبنائها.. فحاول تحطيمها كثيراً بإهمالهم وتركهم..
لكنها شدت على أسرهم وأصرت على تعليمهم... وزرعت فى كل منهم كبرياءً صعباً...
إلى آن الأوان وكان الغريب على فراش الموت، فطلب أن يراها... لا نعلم أكان باحثاً عن صك غفران، أو كما قيل كان لا يزال يحبها..
لكن جدتى... تلك المصرية..... أم الأبناء الثمانية... رفضت أن تزوره، كما قيل لى: هى اعتبرته قد مات يوم فضل عليها امرأة أخرى.
أمى:
تركت منزل والدها فى السادسة عشرة لتعيش فى بيت المصرية مع زوجها وابن عمها.. ذلك الرجل الذى زرعت فيه أمه حب بلدها... وأهلها.... ولغتهم.... وعاداتهم.... فكان نصفه المصرى يطغى على كل شيء فى حياته: فى زاوية الأرابيسك فى مجلس رجاله.. فى سفره كل عام مرة أو اثنين ( لبلد الأخوال) لصلة رحمه معهم.....
هذا الرجل الذى حاول أباه أن يرد ألمه من المصرية فيه و فى اخوته.
دخلت حياةً مع رجلاً كان خليطاً بين الطيبة والجنون... على قدر حنيته وحبه لها... إلا أن غضبه كان تسونامياً الوصف.....
لم تنجب لمدة 5 أعوام، فى بلدة إن لم تحمل المرأة فيها بعد شهر يردوها لأهلها أو يتزوج عليها.... لكن هذا الرجل أحبها لدرجة لم يرتض غيرها امرأة... إلى أن أنجبت الأول والثانى والثالث حتى طفلتها التاسعة....
لقد علمت ذات السادسة عشرة منذ أول لحظة أنها أمام طفل كبير... ورث كبرياء يعلو السماء.... فلم يكن رجلاً ينفع معه لا عند ولا جفاء ولا حتى رد المثل بالمثل كبرياء.
أصبح احتواؤها له أماً وأختاً وصديقاً وأباً.. هى مستشاره الأول والأخير... سلمها مفاتيح ثقته كاملة....
أصبحت القرية الصغيرة دائما تتغنى بصبر أمى واحتوائها... وحبه لها.
أما أنا:
من تنتمى لجيل سمى بالتسعينات (رغم أن كل مواليده فى السبعينيات والثمانينات).
أنا من جيل عاش زمن الانتقال:
من عالمٍ يدور بالازرار إلى عالم يدور باللمس....
من عالم الأسرة المجتمعة حول تلفاز واحد، إلى عالم الشاشات المتناثرة فى أرجاء المنزل.
من عالم رسائل الحب الورقية، إلى عالم ال text و ال Whatsapp, و ال messenger.
من عالمٍ كانت المرأة تدور فى فلك بيتها.... لعالم تخرج به للنور بكل قوة و عنفوان.....
وبين فترة انتقالية عالمية وبين كبرياء عالٍ من جدة حاضرة حتى فى كتاباتى.... وبين أمٍ عرفت بفطرة المرأة أن قوتها تكمن فى ضعف الانثى..... أجدنى تائهة بينى و بين هذه و تلك.....
أجد كبرياءً لا مهرب منه حتى حين أتمنى الهروب....
وأجد ضعفاً يرهق قلبى..... فنحن فى زمن شعاره ليس القوة فقط.... بل القوة والجبروت.
يحيرنى السؤال
أينا نحن الثلاثة على حق؟
حين أفكر فى جدتى: أكان من الممكن أن تتغير حياتها لو تنازلت قليلاً؟
وحين أفكر فى أمى: أكان من الممكن أن لا أولد أنا وأشقائى لو كانت قوية أكثر وأقل ذكاءً؟
أجدنى أنا وكل نساء جيلى فينا الخليط بين جدتى وأمى.... ففينا عنفوان وكبرياء وطلب للحرية (سليمة الفطرة) وفينا احتياج ونداء وطلب للسند.... فينا قوة الجبال، وضعف طفل رضيع..... فينا كبرياء السيدة المصرية التى ارتحلت لعالم جديد فى الأربيعنيات.... وفينا ضعف امرأة صغيرة فهمت عالمها على حقيقته وهى فى السادسة عشرة....
فنساء عالم ما بعد الانتقال جميلات.... ذوات كبرياء.... ذوات حاجة.... ذوات قدرة.... وذوات ضعف.... إنهن البيانو الذى قال عنه يوسف السباعى ليس بيده موسيقاه.... بل المايسترو العازف عليه هو المسئول عن أما أجمل ألحانه أو أشذ أصواته.
على الله تفهموا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة