في الساعة السابعة مساء من 59 سنة فى مثل هذا اليوم 21 يوليو 1960 كان المصريون على موعد إنجاز جديد من إنجازات ثورة يوليو فى العيد الثامن للثورة.
فبعد أقل من عامين من تكليف الرئيس جمال عبد الناصر كان مبنى التليفزيون العربي- المصري حاليا- يعلو شاهقا بمعماره وطابعه المميز على ضفاف النيل فى منطقة ماسبيرو.. الساعة السابعة مساء والكل يتحلق حول هذا الجهاز الذى بدأ إنتاجه وبيعه بالتقسيط المريح، حتى يتاح لأكبر شريحة من المصريين شراؤه واقتناؤه.. ومشاهدة هذا الصندوق العجيب الذي سيبث إرساله بعد قليل بصورة متحركة لأول مرة.
في السابعة تنفرج الشاشة الصماء على صوت الشيخ محمد صديق المنشاوي يقرأ ما تيسر من الذكر الحكيم.. بعدها تذاع جلسة افتتاح مجلس الأمة بخطاب للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ثم نشيد "وطني حبيبي الوطن الأكبر".. ونشرة الأخبار والختم بالقرآن الكريم.
استهل التليفزيون العربي إرساله بقناة واحدة، وكان زمن الإرسال محدد بمعدل 6 ساعات يوميا، ثم ازداد معدل ساعات الإرسال ليصل إلى 13 ساعة يوميا، بعد بدء بث قناة تليفزيونية ثانية فى 21 يوليو 1961، وتم بث قناة ثالثة فى أكتوبر 1962 ووصل متوسط ساعات الإرسال على القنوات الثلاث ما بين 25-30 ساعة يوميا.
الفضل في إنشاء التليفزيون المصري العربي للراحل الدكتور محمد عبد القادر حاتم وزير الإعلام وقتذاك.. وأبو الإعلام المصري والعربي عندما أوحى بالفكرة للرئيس جمال عبد الناصر، واقتنع الرئيس بضرورة إنشاء التليفزيون لشعب مصرفى منطقة ماسبيرو التى سميت باسم عالم الآثار الفرنسى وتولى منصب رئيس هيئة الآثار المصرية في زمن الاحتلال البريطاني.
التليفزيون في البداية كان أبيض وأسود حتي دخل الملون عام 1977
لكن حكاية انشاء التليفزيون لم تكن بهذه البساطة والسهولة فقد كان حلم لعبد الناصر لكن كيف ينفذ..فالدولة مشغولة في التنمية والتحديات الخارجية وليس هناك فائض في الميزانية لمثل هذه الأشياء
يقول الدكتور عبد القاد حاتم في مذكراته: "كان لدي اصرار على تحقيق حلم صديق العمر جمال عبد الناصر بإنشاء التليفزيون بغرض تعليم الشعب وتثقيفه ومحو أميته، فى البداية لم يوافق الرئيس عبد الناصر ، فقد كانت قضايا التنمية والتحديات الخارجية تشغله وليس بميزانية الدولة فائض لإنشاء جهاز التليفزيون، ولكنه حينما وجدنى زعلت ، فقال اعرض رأيك فى اجتماع مجلس الوزراء وهو صاحب القرار ورغم الاعتراضات التى واجهتنى إلا أننى اعتبرتها وجهات نظر ترغب ألا يكون للتليفزيون أى آثار سلبية على وزاراتهم وأنشطتهم ".
يشرح الدكتور حاتم : "تحدث وزير الزراعة في ذلك الوقت قائلا أرفض تماما إنشاء مبنى التليفزيون ، لأن الفلاح المصري لو انشغل بالسهر ومشاهدة البرامج التليفزيونية ، فمن المؤكد إنه لن يذهب فى الصباح الباكر لري أرضه والعمل بجهد وإخلاص في خدمة الأرض التي يقوم بزراعتها .
ثم تحدثت مع وزير الصناعة وقال من المستحيل"تلبية مطالب إنشاء المشروع الضخم لأن مصانعنا ليست مؤهلة لذلك ، ثم تحدث وزير التعليم وقال إنه في حاجة لأي دعم مادى لبناء مدرستين لتعليم أبناء الطبقة الفقيرة أفضل من بناء مبنى للتليفزيون ، وكان آخر المتحدثين د.عبد المنعم القيسوني وزير الاقتصاد الذي أيد إنشاء مبنى التليفزيون، وقال إنه سينقل مصر إلى مصاف الدول المتقدمة التي تتمتع بوسائل إعلام متطورة".
وبالفعل وافق الرئيس عبد الناصر على تنفيذ المشروع، ووضع جدولا زمنيا لبناء المبنى وصدق د.القيسونى على توفير الدعم المالى لإنشاء المشروع الذي بدأ مشروعه بتمويل بلغ 200 ألف جنيه وسألنى الرئيس عبد الناصر كيف استطعت أن تبنى هذا الهرم الكبير بهذا المبلغ القليل. وهكذا أنشأنا التليفزيون بالجهود الذاتية ، ونجح البث التجريبي للبرامج، وفوجئنا بأعداد كبيرة من الفنانين العالميين يتقدمون بطلبات للظهور على شاشة التليفزيون المصري الذي يعد أول تليفزيون فى منطقة الشرق الأوسط".
. "قدم التليفزيون برامج شاملة من توعية وإرشاد للمزارعين وبرامج تعليمية في جميع المراحل ، وبرامج للأطفال وفوازير رمضان التي اشتهر في تقديمها ثلاثي أضواء المسرح".
وعرف الناس حمدي قنديل وماما سميحة وليلى رستم وسمير صبرى وتماضر توفيق وسامية صادق ودرية شرف الدين.. كانت فترة زمنية خصبة فأنشأ مسرح التليفزيون ، وأحدث نهضة مسرحية كبيرة أظهرت الكثير من الفنانين الذين أصبحوا نجوما كبارا أمثال ( فؤاد المهندس – أمين الهنيدي – عبد المنعم إبراهيم ...وغيرهم ) ، كما حدثت نهضة كبيرة في الأعمال الدرامية حيث ظهرت العديد من الأعمال في التليفزيون والتي مازالت محفورة إلي الآن في أذهان الجماهير مثل : ( هارب من الأيام – القاهرة والناس – الساقية وغيرها ) .
أنشأ د حاتم التليفزيون المصري والسوري في دمشق وحلب عام 1960 ، وأنشأ دارا قومية للثقافة تصدر كتابا كل ست ساعات منها سلسلة " أعلام العرب " و سلسلة "المكتبة الثقافية " ، وأنشأ عشر هيئات للسينما تنتج مائة فيلم كل عام ، وأنشأ عشر فرق مسرحية تعرض روائع الفكر العربي والعالمي ، كما قام بحملة عالمية لإنقاذ آثار النوبة من الغرق بعد إنشاء السد العالي وسمح بسفر الآثار المصرية.
59 عاما كان ومازال التليفزيون المصري العربي أو ماسبيرو هو ذاكرة الأمة وتراثها وقوتها الناعمة التي ساهمت في الحشد الوطني حول القضايا القومي وقدم الثقافة والتنوير والرسالة الاعلامية بمستوى مهني وحرفي عال المستوى رغم ضعف الامكانيات وقتها. وخرجت منه رموز وقامات اعلامية ساهمت في تشكيل الوعي لأجيال متعاقبة وكان ومازال ظهير اعلامي وطني في كافة معارك الدولة السياسية والاجتماعية والتنموية.
إنه ماسبيرو الذي يجب الحفاظ عليه كأحد الرموز والمعالم الوطنية مع ضرورة تطويره ليواكب التقدم العالمي.. ماسبيرو رسالة اعلامية وطنية وليس مجرد حسبة اقتصادية.