بعد سنوات من اكتمال رسالة الإسلام على يد النبى محمد عليه الصلاة والسلام، بدأ الفكر الإسلامى يعرف طرقًا مختلفة فى اتباع الدين الحنيف، هذه الطرق والمناهج قامت على النصوص الدينية القرآن الكريم والسنة المحمدية، وصرنا الآن نتحدث عن سنة وشيعة، وداخل السنة نتحدث عن سلفيين ومتصوفة.. وهكذا، ومع الوقت صارت هناك اختلافات كبرى بين هذه الطوائف وصلت للاختلاف فى كثير من الأساسيات، وفى الحقيقة فإن الفكر السلفى هو الذى غالى فى إقصاء الآخر وطرده من دائرة الفرقة الناجية، فكثير من آراء السلفيين تذهب إلى أن معظم المتصوفة أهل بدعة.
ومن القضايا الكبرى التى يختلف حولها الفريقان، الأضرحة وزيارتها، وزيارة المقابر بوجه عام، وقد لاحظنا فى الفترة الأخيرة، أن كثيرًا من الفتاوى التى تصدر عن دار الإفتاء، وهى الجهة الرسمية فى مصر التى لها الحق فى إصدار الفتاوى، تتفق مع ما ذهب إليه المتصوفة وتنتصر لهم ضد فتاوى سلفية، وسنرصد معًا 5 فتاوى تؤكد ما نقوله:
زيارة النساء لـ المقابر
يحرم السلفيون زيارة المرأة للمقابر معتمدين على فتوى للشيخ السلفى ابن باز، حيث قال فيها: "ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لعن زائرات القبور، وأخذ العلماء من ذلك أن الزيارة للنساء محرمة، لأن اللعن لا يكون إلا على محرم، بل يدل على أنه من الكبائر، لأن العلماء ذكروا أن المعصية التى يكون فيها اللعن أو فيها وعيد تعتبر من الكبائر، فالصواب أن الزيارة من النساء للقبور محرمة".
بينما قالت دار الإفتاء بجواز ذلك مدللة بعدد من الأحاديث:
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَإِنَّ فِى زِيَارَتِهَا تَذْكِرَةً» أخرجه مسلم فى "صحيحه" وأبو داود فى "سننه"، واللفظ له.
وروى أن عائشة رضى الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقال لها عبد الله بن أبى مُليكة رضى الله عنه: من أين أقبلتِ يا أم المؤمنين؟ قالت: "مِن قبْر أخى عبد الرحمن". فقال لها: أليس كان نهَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: "نعمْ؛ كان نهَى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها". أخرجه أبو يعلى فى "مسنده"، والحاكم فى "المستدرك".
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ: مَرَّ النبى صلى الله عليه وآله وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: «اتَّقِى اللهَ وَاصْبِرِي»، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِى صلى الله عليه وآله وسلم، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِى صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» أخرجه البخارى فى "صحيحه".
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم وَعَظَهَا بالصبر ولم يُنكر عليها زيارة القبر، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُعلِّم النساء والرجال على السواء إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» أخرجه أحمد فى "مسنده".
وعليه: فمتى قُصد بزيارة القبور الإحسان إلى الميت بالدعاء، وإلى النفس بالعِظة والاعتبار، وخلت من تجديد الأحزان ومظاهر الجزع، واتُّخذت فيها الآداب الشرعية، كانت مشروعة للرجال والنساء على السواء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
التوسل بأولياء الله الصالحين
يرى السلفيون أن ذلك لا يجوز، حيث يقول ابن باز:
لا يجوز التبرك بأحد غير النبى صلى الله عليه وسلم لا بوضوئه ولا بشعره ولا بعرقه ولا بشيء من جسده، بل هذا كله خاص بالنبى صلى الله عليه وسلم لما جعل الله فى جسده وما مسه من الخير والبركة.
ولهذا لم يتبرك الصحابة رضى الله عنهم بأحد منهم، لا فى حياته ولا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا مع الخلفاء الراشدين ولا مع غيرهم فدل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك خاص بالنبى صلى الله عليه وسلم دون غيره، ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه، وهكذا لا يجوز التوسل إلى الله سبحانه بجاه النبى صلى الله عليه وسلم أو ذاته أو صفته أو بركته لعدم الدليل على ذلك؛ ولأن ذلك من وسائل الشرك به والغلو فيه عليه الصلاة والسلام. ولأن ذلك أيضا لم يفعله أصحابه رضى الله عنهم ولو كان خيرا لسبقونا إليه، ولأن ذلك خلاف الأدلة الشرعية، فقد قال الله عز وجل: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[1]، ولم يأمر بدعائه سبحانه بجاه أحد أو حق أحد أو بركة أحد.
بينما ترى دار الإفتاء أنه:
لا مانع شرعًا من قصد رياض الصالحين لزيارتهم، بل ويستحب ذلك؛ لما ورد عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم من الحث على زيارة القبور بقوله: «إِنِّى كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ» رواه أحمد، ولا حرج أيضًا فى التوسل بهم عند جماهير أهل العلم؛ إذ التوسل فى الحقيقة إنما هو بأعمالهم الصالحة، وهو من السبب المأمور به فى قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: 35]، مع اعتقاد المسلم بأنه لا خالق إلا الله، وأن الإسناد لغيره لكونه سببًا، لا لكونه خالقًا ولا باعتباره معبودًا من دون الله.
إحياء ذكرى الأولياء
وفى كلام سابق رئيس جمعية أنصار السنة، الشيخ محمود عامر، قال فيه إن إقامة الموالد "حرام شرعا"، معتبرًا أنها لا تتناسب مع العقل أو الثقافة أو الدين الإسلامى، ولم يرد بها نص من القرآن أو السنة النبوية، وحتى لم يفعلها النبى عليه الصلاة والسلام.
بينما ردت دار الإفتاء المصرية، على سؤال أحد متابعيها على الصفحة الرسمية للدار بموقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك"، حول حكم إقامة الموالد للأولياء، جاء نصه:"ما حكم الموالد التى تقام فى بعض البلاد للشيوخ والأولياء؟ وما رأى الدين فى ذلك؟".
وقالت دار الإفتاء:"إحياء ذكرى الأولياء والصالحين أمر مُرَغَّبٌ فيه شرعًا؛ لما فى ذلك من التأسى بهم والسير على طريقهم، ولا بأس من تحديد أيام معينة يُحتفل فيها بذكرى أولياء الله الصالحين سواء كانت أيام مواليدهم أو غيرها؛ فإن هذا داخل تحت عموم قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ إبراهيم: 5".
وشددت دار الإفتاء: "وأما ما قد يحدث فى بعض هذه المواسم من أمور فيجب إنكارها وتنبيه أصحابها إلى مخالفة ذلك للمقصد الأساس الذى أقيمت من أجله هذه المناسبات الشريفة".
النهى عن هدم الأضرحة
منذ سنوات قليلة اندلعت فتنة بين السلفيين والمتصوفة، بعدما حاول السلفيون التحرك لهدم الأضرحة التى بداخل المساجد أو حتى الأخرى المقامة بعيدًا عن المساجد، مؤكدين أن وجودها حرام وأن هدمها واجب.
بينما أجابت دار الإفتاء عن سائل يقول:
مسجدٌ يوجد بجواره ضريح، ويقع الضريح فى جهة عكس القبلة، وتوجد مساحة مقترحة ضعف مساحة المسجد الحالية مما لا يستوجب ضرورة إزالة الضريح، وهذا الضريح موجود فى أقدم الخرائط ضمن معالم الجهة، وعدد قليل جدًّا من أهل البلدة يريد إزالة الضريح حتى تكون الصلاة فى المسجد صحيحة، وعدد كبير جدًّا من أهل القرية يريد تجنب هدم الضريح وتجديد المسجد التابع للأوقاف وترك الضريح كما هو. فما رأى الدين وما الحكم بين الرأيين؟ مع العلم أن الضريح مسجل بالجهات المعنية.
وجاءت الإجابة بـ
إزالة الضريح من المسجد لا تجوز شرعًا ولو تحت دعوى توسعة المسجد وتجديده؛ لما فيها من الاعتداء السافر على حرمة الأموات، وسوء الأدب مع أولياء الله الصالحين، وهم الذين توعد اللهُ مَن آذاهم بأنه قد آذنهم بالحرب؛ فجاء فى الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» رواه البخاري.
فلا يجوز التوصل إلى فعل الخير بالباطل، ومن أراد توسعة مسجد أو تجديده يجب عليه شرعًا أن يُبْقِى الضريح الذى فيه فى مكانه ولو أصبح وسط المسجد، أو يُتْرَك المسجد كما هو.
والصلاة فى هذا المسجد مع وجود الضريح فيه صحيحةٌ ومشروعةٌ؛ حيث تواترت على ذلك الأدلة: من الكتاب، والسُّنَّة، وفعل الصحابة، وإجماع الأمة الفعلي، والقولُ بتحريمها أو بطلانها قولٌ باطل لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُعَوَّلُ عليه.
الصلاة فى المساجد التى بها ضريح
يذهب السلفيون إلى أن الأضرحة وإقامة مساجد عليها باتفاق الأئمة "حرام"، مستدلين بأن ابن حجر الهيتمى فى كتابه "الزواجر" جمع عدة كبائر وقال فيها اتخاذ القبور مساجد، وهناك من الأحاديث التى تؤيد رأيه منها حديث النبي: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك).
قال ابن باز إن الرسول ﷺ نهى عن الصلاة عند القبور ولعن اليهود والنصارى باتخاذهم المساجد على القبور، وقال عليه الصلاة والسلام: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقالت عائشة رضى الله عنها: يحذر ما صنعوا خرجه البخارى ومسلم فى الصحيحين.
الصلاة فى المساجد التى بها أضرحة الأولياء والصالحين صحيحة ومشروعة، بل ومستحبة أيضًا، وذلك ثابت بالكتاب والسُّنَّة وفعل الصحابة وإجماع الأمة الفعلي. وأما حديث: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيائِهم مَساجِدَ» فمعناه السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان، يدل على هذا المعنى الرواية الصحيحة الأخرى للحديث عند ابن سعد فى "الطبقات الكبرى" عن أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعًا بلفظ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِى وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، فيكون المعنى: اللهم لا تجعل قبرى وثنًا يُسجَدُ له ويُعبَد كما سجد قومٌ لقبور أنبيائهم، وهو دعاء وخبرٌ وليس نهيًا.