تمر اليوم 67 عاما على ثورة 23 يوليو 1952، تلك الثورة التى غيرت كثيرا من تاريخ وصر ووضعت حدا للفترة الملكية لتبدأ معها الفترة الجمهورية لمصر وتسمى جمهورية مصر العربية.
"اليوم السابع"، اختار زاوية جديدة فى تناول تلك الذكرى، فمذكرات السيدة تحية عبد الناصر زوجة الرئيس الراحل، والتى حصل عليه "اليوم السابع"، تحدثت بالتفصيل عن تلك الذكرى وما حدث فيها والأيام السابقة والتالية لها، لتكتب بخيط يديها تفاصيل تلك الثورة وكواليس تحركات الرئيس الراحل خلال هذا اليوم.
وعنوت "تحية عبد الناصر" هذه الأيام فى مذكراتها بـ"ليلة الثورة"، حيث قالت فى مذكراتها بالتفصيل، وإلى نص ما قالته زوجة الرئيس الراحل:
اليوم الثانى والعشرين من يوليه سنة 1952، الساعة السابعة صباحا.. دخل جمال الحجرة وكان يلبس الملابس العادية .. القميص والبنطلون ولم ينم طول الليل .. وجالس فى حجرة السفره يشتغل كالليلة السابقة ..حيانى واستعد للخروج واستبدل ملابسه بالملابس العسكرية وتناولنا الإفطار سويا .
خرج ورجع عند الظهر، وتناول الغداء مع الضباط، وظل معهم فى الصالون وحجرة السفرة وقت ثم خرج الضيوف، تحدث معى جمال وقال: لما لا تخرجى وتأخذى معك هدى ومنى وخالد وتذهبى للسينما والجو حار وتتسلى ويذهب معك أخواتى.. فقلت: نعم سأفكر فى الذهاب.. وحيانى وخرج . بعد خروجه وقرب المغرب فضلت أن أخرج أمشى بالقرب من الحديقة التى أمام قصر القبة ، وكانت ليست مزدحمة كالآن وأغلب البيوت فيلات والمشى لطيف بالقرب من القصر حيث رائحة الزهور.
خرجت ومعى هدى ومنى وخالد ومشينا حتى بعد الغروب ورجعنا وكانت الساعة قبل الثامنة.. قال لى شقيقه: إن أخى حضر من وقت قصير وسأل عنك وعن الأولاد وأخبرناه بأنك تتمشى عند قصر القبة . وبعد قليل حضر جمال وكان يلبس القميص والبنطلون ووجدنى فى الصالة مع الأولاد.. حيانى وقال : أنا جيت وسألت عنك ولم تذهبى للسينما .. فقلت له : إنى فضلت الخروج والمشى فى الهواء الطلق والأحسن أن لا أترك ميدو وأغيب عنه وقت أطول .. فأخذ يتكلم مع أولاده ويلاطفهم ويقبلهم بحرارة ويقول لهم أسماء الدلع التى اعتاد أن يقولها لهم، ويقبل هدى ومنى وخالد وعبد الحميد وكنت أحمله على كتفى، وخرج بمفرده بنفس الملابس.. القميص والبنطلون.
تناول الأولاد العشاء وناموا مبكرين كعادتهم، وظل ميدو البيبى حتى تناول وجبة الساعة التاسعة ونام .. وجلست مع الليثى وشوقى ، وقبل الساعة الحادية عشرة مساء قمت ودخلت حجرة النوم، ورجع جمال ودخل الحجرة وكنت مستلقية على السرير وكانت مضيئة .
كان من عادته يغسل وجهه قبل النوم فقلت فى نفسى : إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو الليلة سينام مبكرا .. وجدته بعد أن غسل وجهه فتح الدولاب وأخرج البدلة العسكرية ووجدته يرتديها .. فقمت وجلست وقلت له بالحرف : انت رايح فين بالبدلة الرسمية دلوقت؟
وكانت أول مرة أسأله انت رايح فين منذ زواجنا .. فرد على بكل هدوء وصدر رحب قائلا : أنا لم أكمل تصحيح أوراق كلية أركان حرب ويجب أن أنتهى من تصحيحها ، وغدا تكون كلها كاملة التصحيح ، ومنذ يومين وأنا أشتغل هنا ، والضابط الذى يجلس معى ونشتغل سويا قال لى نسهر الليلة فى بيته نكمل تصحيح الأوراق ، وسأذهب الى الكلية وسوف لا أرجع البيت الليلة ، وانتظرينى غدا وقت الغداء .. وحيانى ، وقبل خروجه من الحجرة قال لى : لا تخرجى الى الصالة الآن يوجد فيها ضابط ينتظرنى .. وأغلق الحجرة بعد خروجه منها .
بعد أن سمعت باب المسكن يقفل قمت وخرجت من الحجرة.. وجدت أخويه الاثنين جالسان فى حجرة المكتب فقلت لهما : إن جمال اعتقل .. فرد شقيقه ليثى قائلا : لا إنه لم يعتقل اطمئنى .. فقلت : إنه خرج وارتدى ملابسه العسكرية وينتظره ضابط كما حدث يوم أن اعتقله ابراهيم عبد الهادى .
أنا شايفة البيت مقلوب من ساعة حضورنا من اسكندرية بشكل غير معقول ، والضباط والسهر حتى الصباح .. أنا متأكدة إن رئيس الوزارة الجديد نجيب الهلالى الذى عين منذ يومان اعتقله .. فقال شقيقه : لا أبدا اطمئنى إنه لم يعتقل .. وكان على المكتب مصحف أخذه فى يده وحلف وأقسم إن جمال لم يعتقل .. فسكت وجلست فى الحجرة مع شقيقاه الاثنين، فسألنى شقيقه : هل تناولت العشاء ؟ فقلت : لا .. فقال إننا لم نتناول العشاء بعد .. فقمت وأحضرت عشاء خفيفا من الجبنه تناولناه فى حجرة المكتب . جلست معهم حتى قبل الثانية عشرة ، ثم تركتهم ودخلت حجرة النوم .. واستلقيت على السرير .
بعد دقائق - وكانت الساعة الثانية عشرة - سمعت صوت طلقات رصاص كثيرة شعرت أنها صادرة من ناحية قصر القبة .. فقمت مسرعة وخرجت الى الصالة ووجدت شقيقاه فقلت : إن هذا الضرب .. الطلقات فى قصر الملك ولا بد أن يكون جمال من الذين يطلقون الرصاص ويهاجمون القصر .. وبكيت، واستمرت الطلقات الكثيرة حوالى عشرة دقائق ثم سكتت دقائق وعادت مرة أخرى لدقائق .. واستمريت فى البكاء فقال لى شقيقه : إن صوت الطلقات كما هو معروف يصدر من الناحية المقابلة لها وليس من المكان الذى أطلقت منه ، إنها ليست فى القصر ولا تنشغلى ، ونظر الى المصحف وهم بأخذه فى يده، فقلت له : لا تلمس المصحف ، سوف لا أصدقك وأنت تحلف يمين دون أن تعلم شيئا .. فرجع ولم يلمس المصحف .
بقينا جالسين فى حجرة المكتب وشعرت أن شقيقه يريد النوم فقمت ودخلت حجرتى .. ولم أنم ، وبعد وقت وكل البيت هادئ وسكون قمت فى الظلام لأرى الشارع بعد سماعى طلقات الرصاص الكثيرة ، ومشيت لحجرة السفرة وفتحت الشباك أنظر الى الشارع.. وأنا واقفه فى الحجرة فى الظلام رأيت شقيقاه دخلا وكانا فى الفرانده ، وعند رؤيتهما لى قالا : إننا انتظرنا نومك حتى نرى من الفرانده ماذا حصل .. فقلت : وأنا أيضا انتظرت نومكما وقمت فى الظلام لأنظر من الشباك وأرى ماذا حصل ، ورجوتهما أن لا يقفا فى الفرانده ويظهرا وقلت : أنا متأكدة إن البوليس والمباحث يراقبون بيتنا .. وبقيت ساهرة أنظر من الشباك الى الشارع وأنظر من الفرانده ، وأحاول أن لا أظهر لخوفى من مراقبة بيتنا ، وكنت أرى الشارع من الفرانده بسهولة ووضوح كما وصفت البيت ..كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عندما رأيت شابا يقف فى ناصية الشارع .. وهو ميدان المستشفى العسكرى فى ذلك الوقت .. رأيت الشاب طويل القامة يزعق بصوت عالى ويقول :عندك .. ثم يتحرك ويمشى بخطوات ثابتة وأسمع صوتها ويروح ويجئ ويقول : عندك يا جدع بصوت عالى ، وأرى العربات تتجول وترجع من الشوارع الداخلية فى كوبرى القبه ، ومنهم من كان يمر من الشارع الذى يمين البيت المقابل لبيتنا .
ولم أتبين أنه كان صوت جمال ، وأن الشاب طويل القامة الذى يتحرك بخطوات ثابتة ويقول عندك يا جدع بصوت عالى فى سكون الليل ويرجع العربات ويقفل الشارع هو البكباشى جمال عبد الناصر .. زوجى الحبيب .. بقيت واقفة فى الفرانده والشباك ألاحظ هذا الشاب وقفل الشارع وأنا قلقه وأقول : ماذا حصل وقت سماعى الطلقات ؟ وكان همى أن لا يكون جمال أصيب فى هذه الطلقات .
قبل الساعة الثانية صباحا رأيت العربات المصفحة والدبابات والجيش ، وكان قد زود بأسلحة بعد حرب فلسطين ، فرأيت وسمعت صوت الدبابات وهى تكركر وتمر فى الشارع وتمشى فى ميدان المستشفى العسكرى ، وكنت أعرف شوارع ثكنات الجيش وأمر عليها فى خروجى ، اذ كانت كلها قريبة من بيتنا ، ورأيت أخويه يقفزان من الفرح ويقبلان بعضهما وقالا : افرحى افرحى فقلت : وأين جمال .. والطلقات التى سمعناها ؟ وأخذت أبكى وقلت : الآن أنا فهمت إنها حركة للجيش.. وأخذ أخويه يهنئانى فكنت أسكت من البكاء ثم أرجع أبكى وأقول بالحرف : بس لو كنت أعرف فين جمال .. وطلقات الرصاص اللى سمعناها ؟ قالا شقيقاه : لقد أخبرنا قبل خروجه أنه ذاهب فى مهمة خطيرة : فاذا رأيتم الجيش نازل والدبابات والعربات اعرفوا إنى نجحت ، واذا لم تروا شيئا اسألوا عنى غدا واعرفوا أنا فين . قلت :أنا الآن عرفت إنها حركة للجيش ونجحت ، بس أين جمال ؟ أريد أن أطمئن عليه .. وكنت أبكى وبقيت جالسه حتى الصباح لم أدخل حجرة النوم .
وفى الساعة السادسة والنصف صباحا يوم 23 يوليه سنة 1952 سمعنا خبط على الباب وفتح شقيقه ، وكان الذى حضر ثروت عكاشة وطلب مقابلتى ..ذهبت له عند الباب فمد يده وهنأنى قائلا أهنئك من كل قلبى .. نجحت حركة الجيش فقلت على الفور: وفين جمال ؟ قال بالحرف : هو قريب منك بينك وبينه خمس دقائق .. موجود فى القيادة العامة وطبعا تعرفيها ؟ فقلت : إنى أمر عليها كثيرا وأعرفها جيدا .. وقال : اسمعى البيان فى الراديو الساعة السابعة .. فشكرته وانصرف .
فتحنا الراديو لنسمع البيان .. وكان فى عطل فى الاذاعة حتى الساعة السابعة والثلث .. وسمعنا البيان الذى قرأه أنور السادات ، وفى الساعة التاسعة حضر صف ضابط وقال إنه من القيادة العامة فى كوبرى القبة ، وأن الذى أرسله البكباشى جمال عبد الناصر ليخبرنى بأنه بخير والحمد لله ، وأنه سوف لا يحضر وقت الغداء وموجود فى القيادة .
حضر أخى ودخل.. وكنا فى الصالة.. شقيقاه وأنا .. بعد أن صافحته قلت له يجلس فقال : أنا مستعجل وتركت مكتبى وحضرت ، ويوجد عندى ناس ينتظرونى وتركتهم وقلت لهم سوف لا أغيب ، وليس لدى وقت للجلوس .. وقال : أنا رأيت الشوارع فيها جيش ودبابات ، والاذاعة محاطه بالجيش ، وكل الميادين والأماكن المهمة فيها جيش ، وسمعت أن الجيش قام بتحرك عسكرى فانشغلت على البكباشى جمال ، وحضرت لأطمئن لعله لا يكون من هؤلاء الضباط لأن الملك سوف لا يتركهم ، وسيعدمهم فورا وأنا متأكد من ذلك .. فقلت له : اطمئن جمال لا يتدخل فى السياسة ، وسألنى : متى خرج من البيت ؟ قلت كالعادة خرج قبل الثامنة صباحا ، وصافحنى وخرج قبل أن نقدم له عصيرا أو قهوة ..فنظر لى شقيقاه وهما يبتسمان .. وابتسمت ، وما أن سمعت باب عربته يقفل وتتحرك حتى ضحكت وشاركنى شقيقاه فى الضحك وقهقها ، ووقفنا نضحك .. ولم أعى كلامه أى اهتمام ، وكل ما قاله لى كان فى نظرى هراء بل أضحكنى .
كنا نستمع للراديو وقراءة البيان طول النهار ، ونسمع صوت الطائرات وهى تحلق فى سماء القاهرة وتمر فوق كوبرى القبة باستمرار منذ الصباح .. فى الساعة العاشرة مساء حضر جمال ، وبعد أن هنأته من كل قلبى قال : سأبقى ساعتين فقط وأرجع الى القيادة . وحلق ذقنه وأخذ حمام واستبدل ملابسه وجلس معنا فى حجرة المكتب . أخبرته عن أخى وحضوره فى الصباح وسؤاله عنه وقلقه عليه ، وأخبرته بما قلته له .. ولم اذكر ما قاله لى عن الملك وعن رأيه فيما سيفعله ، فقال لى : إنه سيدهش غدا اذ سيرانى فى الجرائد ويرى صورا لى فى عربة جيب ، وقال إنه لف الشوارع الرئيسية فى البلد مع اللواء محمد نجيب - وكانت أول مرة أسمع اسمه -وإن البلد كلها خرجت لتحيتهم وكلها حماس، فقلت له : إنى طول النهار أسمع الطائرات تمر من فوق البيت ، وحكيت له عن سهرى طول الليل حتى الصباح ، وقلقى عليه عند سماعى طلقات الرصاص، فقال جمال : لقد اقتحمنا القيادة العامة بفرقة من الجيش ومعى عبد الحكيم عامر ، ولم يصب الا اثنين فقط من الجنود .. واحد من حرس القيادة وواحد من الفرقة التى معنا . واستسلم كل الموجودين فى القيادة وكانوا مجتمعين ، وأخذتهم واحدا واحدا وأدخلتهم فى مبنى المدرسة الثانوية العسكرية - وكان فى منشية البكرى فى ذلك الوقت - ثم قال : وسلمتهم للسجان حمدى عاشور .. وضحك ، وبعد أن تم كل شئ خرجت لأقفل الشارع وأرجع العربيات المارة قبل مرور الجيش ، وكنت واقف على ناصية الشارع وركنت العربية الأوستن بالقرب منى .. وأضاف وهو يضحك :لما تقلقين وأنا قريب منك على ناصية الشارع ، والعربية الأوستن بالقرب منى فى ميدان المستشفى العسكرى ؟ فقلت: إنك كنت قريبا ولكن بعيدا جدا.. وكان يضحك .
وتحدث عن الملك وقال : لقد أرسل الملك مبعوث من قبله وأملينا عليه تغييرات وشروط ،وكل ما طلبناه منه وافق عليه فورا . وحدثته عن حضور ثروت عكاشة فى الصباح وتهنئته لى وقوله : اسمعى البيان فى الساعة السابعة .. وسمعته فقال جمال : إنه أنور السادات ، وقال :لقد كان هو وزوجته فى السينما ، وعندما رجع لبيته وقرأ الورقة المكتوب فيها يحضر ارتدى ملابسه العسكرية وخرج مسرعا ، وفى طريقه للقيادة عند مدخل مصر الجديدة منعه الضابط المكلف بالوقوف هناك لعدم معرفته كلمة السر ، وبعد الحاح سمح له الضابط بالمرور ، وعند مدخل القيادة منع أيضا من الدخول فلف ودار حول القيادة بدون جدوى ، وأخيرا نادى وصاح فسمعه عبد الحكيم وعلمت بحضوره ودخل القيادة عند الفجر ، وفى الصباح أعطيته البيان ليقرأه فى الاذاعة .. وكان جمال عبد الناصر يضحك وهو يحكى عن أنور السادات .
وفى الساعة الثانية عشرة مساء قام جمال وقال لى :لا تنتظرينى فسأبقى فى القيادة .. وحيانى وخرج . الأيام الأولى بعد نجاح حركة الجيش فى يوم 24 يوليه سنة 1952 طلعت جرائد الصباح كلها عن الجيش.
رأيت صور جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر صديقه وصلاح سالم .. وكان يحضر فى بيتنا وجمال يذكر اسمه ، وكمال الدين حسين وكان يحضر لبيتنا أيضا ، ويقول كمال فقط دون ذكر اسمه الثانى ، وجمال سالم وكان يحضر وسمعت اسمه ولم أكن أعرفه شخصيا ، وعبد اللطيف بغدادى وكنت لم أراه ولا أذكر إنى سمعت اسمه أو قرأته فى الأوراق التى كنت أستلمها ، وزكريا محيى الدين والمذاكرة أيام كلية أركان حرب ، وخالد محيى الدين وكان سلمنى المنشورات ، وحسن ابراهيم وأنور السادات الزائر الأسمر .. وصورة لجمال مع اللواء محمد نجيب فى عربة جيب وكنت لم أسمع عنه ولم أسمع اسمه أبدا فى بيتنا ، ثم بعد ذلك علمت باسم حسين الشافعى بين أعضاء مجلس الثورة وكنت لم أره .
ظل جمال فى القيادة ولم يحضر البيت حتى يوم 26 يوليه سنة 1952 الساعة الخامسة صباحا .. حضر وقال : اليوم الساعة السادسة مساء سيغادر الملك البلد وسيبحر على الباخرة المحروسة ، وقال : لقد ذهب جمال سالم للاسكندرية ليحضر رحيل الملك ، وحاصرنا القصور الملكية فى القاهرة والاسكندرية ،واسمعى الاذاعة الساعة السادسة مساء . وجلس يتحدث معنا حتى الساعة السادسة صباحا .. أى مكث ساعة واحدة .. وحيانى وخرج للقيادة .
بعد ليلة الثورة وقف اثنين من عساكر الأمن على باب البيت الذى نسكنه ، واثنين عند مدخل الشارع ، وعند دخول أى واحد فى البيت يصعد العسكرى ورائه حتى اذا رآه صعد عند أحد الساكنين يرجع ، واذا كان الداخل وقف عند مسكننا وطرق على الباب يظل واقفا خلفه حتى يفتح له الباب ويدخل .
قال جمال للمراسله أن يلاحظ راحة العساكر ، ويقدم لهم شاى وقهوة وماء ، وفى أوقات الطعام يقدم لهم الغداء والعشاء ، وأوصانى بتجهيز الأكل للعساكر الواقفين عند الباب وقت وجبات الطعام ، فكنا نجهز كل شىء كما قال لنا . وكان جمال يحضر للبيت قليلا ، ويبات فى البيت قليلا ويخرج فى الصباح مبكرا ، وقلما كان يرى الأولاد .. واذا رآهم يكون قبل خروجه .
فى أول أسبوع بعد الثورة الغى نظام المراسله .. ولكن رفض المراسله الذى يرافق جمال تركنا وقال : أين سأذهب ؟ وماذا سأعمل فى القرية ؟ إن أبى فقير ، وقال : سأظل عندكم مع جناب البكباشى .. فقال جمال : فاليبقى حتى أجد له مكان عمل يناسبه ، وأعطاه مرتبا مناسبا فى ذلك الوقت ، وبعد ذلك عينه عسكرى أمن بالرئاسة . أما المراسله الأول - وهو الذى رافقه فى حرب فلسطين - فقد رآه جمال مرة وهو فى رحلة للصعيد واقف مع الجموع يلوح بيديه ويريد الاقتراب منه ، فطلبه وسأله عن حالته .. فشكى له سوء أحواله وطلب أن يلحقه بعمل .. فعينه الرئيس عسكرى أمن فى منشية البكرى .
قال لى جمال: أنت الآن لا تخرجين والعربية فى الجراج ، سأرسل لك سائق عسكرى لتخرجى ومعك الأولاد . ذهبت لشقيقاتى وذهبت لزيارة حرم عبد الحكيم عامر ورأيت المدافع عند مدخل مصر الجديدة .كنا لا نرى جمال فى البيت وقت النهار أبدا ، ولا يتناول معنا الا وجبة الافطار اذا بات فى البيت ، وقبل خروجه للقيادة يحضر له زوار وأكثرهم ضباط ، ويمكث معهم وقتا قصيرا .. وكلها زيارات لطلبات أو شكاوى أو تظلمات ، ثم يذهب للقيادة . وكان يمكث فى القيادة أياما دون أن نراه ، ورتب كل ما يلزمه من ملابس وأدوات حلاقه فى القيادة ، وكان يرسل أحد العساكر فى عربة جيب ليأخذ ما يلزمه ويوصله له . وبعد أسبوع أدخل التلفون فى بيتنا فلم أهتم به أو أشعر أن شيئا كان ناقصا .. فقط وجدته فى البيت ، وأول مكالمة لى فى التلفون .. كان لاحدى قريبات الدكتور الذى أضع فى مستشفاه طلب، ولا أدرى كيف تذكر اسمى؟.. وتذكرت إنى كنت كلما ذهبت إليه أثناء مباشرته لى وقت الحمل كان يسألنى عن اسمى ، وكلمتنى السيدة عن طلبها وقالت: لقد قال لى الدكتور أنك وضعت فى مستشفاه ولدين.
كانت تحضر سيدات من زوجات الضباط الكبار.. منهم اللواءات ويطلبن مقابلتى لتوصيتى بإخبار البكباشى جمال عبد الناصر عن حالة أزواجهن الذين طلعوا فى التطهير ، وأيضا زوجات لغير الضباط، وتحضر سيدات لاعطائى شكاوى وتوصيات وتظلمات من أحوال فى عهد الملك كان أزواجهن مظلومين فيها ، وطلبات بتحسين وتغيير فى وضعهم. وعند حضور جمال كل الجوابات والأوراق والشكاوى أعطيها له. ومنهن سيدات يتظلمن من نظام الوقف لأنه لا يعطى المرأة نصيب من تركة الرجل .. أبوها أو أخوها ، وبعضهن يقلن إنهن فقراء وأخواتهن الذكور فى غاية الثراء ويسكنون القصور.. فكنت أرى وأقابل هذه المرحلة بشىء من الاهتمام .
أزيل الحائط الذى كان فى آخر الشارع ويسد الطريق الى شارع كوبرى القبة ، وهو الذى كان بجوار جراج العربية الأوستن السوداء ، وأصبح الطريق مفتوحا من كل الجهات اذ كان ضمن مبانى الوقف .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة