إذا كانت هناك اختلافات واسعة حول أحداث ووقائع، لم يمر عليها عشر سنوات، فما بالنا بوقائع مر عليها 67 عاما، مثل 23 يوليو، وشخص رحل منذ 49 عاما هو جمال عبد الناصر؟!
وعلى طريقة التراس كرة القدم، يمكن أن يقرأ العابر على مواقع التواصل الاجتماعى حكايات وأساطير حول المرحلة الملكية أو الجمهورية، ومع الوقت وكثر الاستعمال «العميانى» تتحول إلى مصادر لتحليلات اقتصادية واجتماعية. ومنها مقولات مجهولة النسب عن كيف كان الجنيه المصرى يساوى عشرات الجنيهات الاسترلينية، وأن إنجلترا كانت مدينة لمصر، واحتياطيات مصر من الذهب وحالة الرفاهية والثراء التى يعيشها المصريون، وهذا مرفق بصور من شارع فؤاد، والقاهرة الإسماعيلية، أو العكس حيث ينفى البعض أى ميزة للعهد الملكى، ويتجاهلون أن يوليو كانت حلقة من حلقات التاريخ الحديث يفترض قراءتها بمنفردات عصرها.
وبالرغم من تضاعف أدوات المعرفة والبحث ومصادر التاريخ، يظل الجدل «واحديا صداميا» يفتقد للتوثيق ويميل الى الاستسهال، ونجد أجيالا ولدت بعد رحيل عبد الناصر بربع قرن ترث جدلا عقيما، وفى ضريح جمال عبد الناصر، فى ذكرى يوليو وميلاد ناصر، يمكن أن تجد أجيالا متعددة بين ثمانين وتسعة عشر عاما، بما يعنى تواصل أجيال فى الموقف تجاه يوليو 1952 وجمال عبدالناصر، وهؤلاء لديهم فرصة لتفهم هذا العهد وقراءته، بذهنية أقل استقطابا.. وكل ما يحتاجونه هو قراءة أوراق وقائع، لكن المفارقة أن العصر يتيح معلومات، ولا يترك فرصة للمعرفة.
تاريخنا الحديث يمتد من بداية القرن التاسع عشر، مع محمد على، الذى حكم عام من 1805 إلى 1848، وتواصلت حلقات التاريخ صعودا وهبوطا، ومساعى التمصير وتكافؤ الفرص من أحمد عرابى 1881، وفشل ثورته والاحتلال الإنجليزى، حتى عام 1951.
فى مواجهة الاحتلال بدأت النخب المصرية الوسطى والعليا الكفاح من أجل الاستقلال، وشهدت مصر حركة سياسية واجتماعية وثقافية أسست لوعى سياسى واجتماعي تجلى فى ثورة 1919، ودستور 1923، لتبدأ واحدة من أكثر مراحل التاريخ خصوبة فى إنتاج الوعى وصياغة التيارات السياسية والفكرية يمينا ويسارا.
كانت أطراف السياسة فى الفترة ما بعد دستور 23 تتركز فى القصر والإنجليز، وداخل هذا كانت الأحزاب والقوى السياسية، وحتى حزب الوفد الممثل للطبقات الوسطى والشعبية والملاك، تعرض لانشقاقات، ولم يحكم سوى سنوات قليلة خلال ثلاثين عاما، فى نهاية الأربعينيات ظهرت مرحلة الصراع والارتباك السياسى تقوم الحكومات وتنهار، ومع حريق القاهرة كانت نهاية مرحلة من الصدام. ويمكن لمن يريد أن يتعرف على هذه الفترة من كتابات منها طارق البشرى «الحركة السياسية فى مصر 1945 - 1952» محمد حسين هيكل عبد العظيم رمضان، فتحى رضوان، وكتابات أدبية مثل نجيب محفوظ يوسف إدريس وتوفيق الحكيم وغيرهم ..
لم تكن 23 يوليو بعيدة عن هذا التطور، ما بعد حرب عالمية وتحولات دولية وظهور القطبين السوفيتى الاشتراكى والأمريكى الرأسمالى على أنقاض الاستعمار القديم الفرنسى والبريطانى، وبالتالى فلم تكن أحداث يوليو وما بعدها منفصلة عن تاريخ المصريين طوال نصف القرن السابق لها، وحتى أهداف الثورة التى أعلنت لم تهبط من الفراغ، لكنها كانت ترجمة لمطالب النخب السياسية والاقتصادية طوال نصف القرن خاصة بعد ثورة 1919، واستجابة لأفكار الوفد وطليعته ومفكرين مثل طه حسين وطلعت حرب بل ربما قطاعات من الاشتراكيين ونواب فى البرلمانات التى سبقت يوليو.
مثلا طلعت حرب لم يكن مجرد اقتصادى ورجل بنوك، ولكنه كان مفكرا يؤمن بالاستقلال، شارك فى ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، وأنشأ «شركة التعاون المالى» بهدف إقراض المصريين، وأسس «بنك مصر» عام 1920، ومن أنشأ الشركات العملاقة التى تحمل اسم مصر مثل الغزل والنسيج بالمحلة، ومصر للطيران، والتأمين، والمناجم والمحاجر، والبترول، والسياحة، واستوديو مصر، حتى أجبر على الاستقالة، فانعزل ومات عام 1941، بعد أن وضع أسس الاقتصاد الوطنى، ومثلت أفكاره القاعدة التى قام عليها نموذج التنمية بعد يوليو، وكان هذا متزامنا مع دورحزب الوفد فى نقل التحديث ودعم انضمام أبناء الطبقى الوسطى والفقراء إلى التعليم والوظائف والجيش والشرطة، وتكشف كتابات ونقاشات السياسيين أنهم لم يكونوا راضين عن الفقر والظلم واستئثار المحتلين وأصحاب الامتيازات بكل شىء.
وعليه لم تكن مصر خالية من الوعى، ويوليو لم تهبط من السماء وكانت جزءا من تاريخ صعودا وهبوطا نحتاج لمعرفته حتى يمكننا محاكمته والحكم عليه، فحتى عبد الناصر استند فى مشروعه على نخبة تعلمت فى الثلاثينيات والأربعينيات وهذه قصة أخرى.