عندما نتحدث عن ثورة 23 يوليو فنحن نتكلم عن ماضٍ، وبالتالى فإن الانقسام الحاد حول الأحداث والوقائع ليس خلافا فى تواريخ وإنما فى مواقف سياسية، وهو ما يجعل الآراء جاهزة ومسبقة تأييدا أو معارضة، وبصرف النظر عن الاختلافات فإن 23 يوليو حدث غير مصر سياسيا واجتماعيا وأحدثت تحولا فى السياسة الإقليمية والدولية.
وأكبر دليل على تأثيرها هو أن 67 عاما على الحدث وما يزال ساخنا وقادرا على إثارة كل هذا الجدل، وكأنه حدث بالأمس، بينما الهدف هو قراءة تفيد المستقبل إن كان، وتفتح الباب لدراسة مرحلة لها تأثيرات إيجابية وسلبية، على أن يتم هذا بمعايير زمنها وليس بقوانين الحاضر.
أشرنا إلى أن 23 يوليو لم تكن حدثا منفصلا عن حلقات التاريخ السياسى والاجتماعى والاقتصادى لمصر خلال نصف القرن السابق عليها، كما أن تأثيرها يتواصل فى المراحل التالية وأحدثت تحولات سياسية والاقتصادية واجتماعية واسعة وعميقة، غيرت من شكل وصورة المجتمع المصرى، وهى تحولات يمكن النظر إليها بقوانين زمنها.
ويظل العمل السياسى هو النقطة التى تتوقف عندها المحاكمة لمرحلة جمال عبد الناصر، ونقصد بها الهدف السادس من أهداف الثورة والذى يتعلق بإقامة «حياة ديمقراطية سليمة»، حيث تم إلغاء الأحزاب، والسير فى طريق التنظيم السياسى الواحد، والاتحاد الاشتراكى. وهناك الكثير من الكتابات النقدية عالجت علاقة يوليو بالديمقراطية منها كتاب طارق البشرى «الديمقراطية ونظام يوليو»، وعالجه من زاويته لكنه عالجه بموازين زمنه، وغيره من فعلوا هذا، فى معالجات يمكن الاستفادة منها، وتنطلق من أن الديموقراطية المحسوبة كان يمكن أن تعالج الفراغ السياسى.
هناك من يرى أنه «لو» أبقى ناصر على الأحزاب أو تم تعديل القانون مع الإبقاء عليه، ربما كان يمكن أن تكون هناك حياة سياسية قادرة على البقاء، ومع أن التاريخ ليس فيه «لو» لكن تظل هذه النقطة تثير الجدل، ويبرره البعض بأن الأحزاب نفسها كانت تخوض صراعات قبل يوليو، وأنها عجزت عن البقاء فى منافسة سياسية واضحة وهو تبرير يمكن الرد عليه بأن الأحزاب كانت مقيدة فى وجود تأثيرا القصر الملكى، وأن غيابها خلق فراغا لم ينجح الاتحاد الاشتراكى فى ملئه، وهو ما أدى إلى سهولة الانقضاض على ما حققته الثورة.
لكن من المفارقات الواضحة فى تاريخ العمل السياسى، أن جمال عبد الناصر بالرغم من أنه ألغى الأحزاب فقد استعان فى بناء تجربته السياسية والصناعية والاقتصادية بكوادر كلهم تعلموا فى المرحلة الملكية.
مثلا الدكتور عزيز صدقى أهم وزراء الصناعة فى عهد عبدالناصر تخرج من كلية الهندسة جامعة القاهرة عام 1944، وحصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية عام 1950، وصدقى سليمان أبوالصناعة والحديد والصلب، والقطارات، والصناعات الحربية والتعدين، حصل على بكالوريوس هندسة 1939، ومصطفى خليل الذى تولى وزارات المواصلات والكهرباء والطاقة، والإسكان. تخرج من كلية الهندسة 1941، وحصل على الدكتوراه، من «إلينوى» 1951، أيضا الدبلوماسيون والسياسيون الكبار مثل محمود رياض وزير الخارجية وأمين عام للجامعة العربية تخرج فى الكلية الحربية عام 1936، وكان عضوا فى وفود مصر الدبلوماسية منذ عام 1949، نفس الأمر مع محمود فوزى، وزير الخارجية ورئيس الوزراء وبطرس غالى، وإسماعيل فهمى، وأغلب رجال الدولة فى عهد عبدالناصر بل أيضا السادات.
وهذا له معانى مختلفة أن عبد الناصر قدم أصحاب الخبرة والكفاءة، ولم يستبعد كل ما ينتمى للعهد الملكى وهو أيضا دليل على أن العهد الملكى لم يكن خاليا من كوادر ساهمت فى بناء الدولة خلال أربعين عاما على الأقل.
مفارقة أخرى أن كوادر الاتحاد الاشتراكى هى نفسها هى التى شكلت التجربة الحزبية الثانية عندما أعاد الرئيس السادات الأحزاب، وظلت التجربة الحزبية مقيدة، لكنها قامت على سياسيين تخرجوا فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وقد رصد ذلك الأستاذ عبد الغفار شكر فى كتابه عن «منظمة الشباب»، وكتابه عن «الطليعة العربية التنظيم السياسى السرى لجمال عبد الناصر»، ويكشف فيه عن كوادر التنظيم التى استمرت فى العمل السياسى حتى الثمانينيات.
وهذه كلها أوراق مهمة فيما يتعلق بالعمل السياسى وتقييم التجربة السياسية، والتنظيم الواحد وأسئلة الديمقراطية، لأن الممارسة السياسية تظل النقطة الأكثر إثارة للانتقاد، وحتى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر اعترف فى جلسات الاتحاد الاشتراكى ما بعد هزيمة يونيو بأنه لو عاد به الزمن لما أقدم على إلغاء الأحزاب، بل وكانت النية تتجه لإعادة التجربة الحزبية لكن عبد الناصر رحل فجأة، وجرت تحولات أخرى فى السياسة والاقتصاد، وهذا كله يمثل أوراقا مهمة فى تاريخ تحتاج لقراءة للمستقبل تتجاوز الاستقطاب حول الماضى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة