فى عالم السياسة تحدث تحولات كمية تتراكم لتصنع تغييرا كيفيا، وفيما يتعلق بتوازنات القوة والنفوذ حاليا هناك مظاهر لشكل جديد من العالم تبدو فيه الولايات المتحدة أحد القوى الفاعلة لكنها ليست القوة الوحيدة، مثلما كان معلنا فى بداية الألفية، لم ينته التاريخ عند الولايات المتحدة، ونحت قوى أخرى ذات تأثير وفاعلية فى التشكيل الثانى لعالم ما بعد الحرب الباردة.
تكون العالم الحديث مرتين فى النصف الأول من القرن العشرين، مرة بعد الحرب العالمية الأولى، ومرة أخرى بعد الحرب الثانية، فى المرة الأولى كانت الدول الاستعمارية التقليدية مثل فرنسا وبريطانيا ما تزال لها التاثير الأقوى، وتفرض نفوذها على العالم، لكن الحرب العالمية الثانية أنهت نفوذ الدول الاستعمارية القديمة، وظهر قطبان فاعلان، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، السوفييت بدخول برلين والولايات المتحدة بالقنبلة النووية.
وبدأ سباق الحرب الباردة، عسكريا وتكنولوجيا، وحوله تشكلت أحلاف الشرق والغرب، ظل السباق والاستقطاب قائما حتى الغزو السوفيتى لأفغانستان، والذى مثل بداية تراجع الاتحاد السوفيتى، واستغلته لولايات المتحدة لتخوض واحدة من أكبر حروب الوكالة.
عندما غزا العراق الكويت قادت الولايات المتحدة تحالفا لتحرير الكويت وتزامن هذا مع بدء تفكك الاتحاد السوفيتى، وتعامل الولايات المتحدة بصفتها القطب الأوحد ورئيس العالم.
لم تحتج أمريكا لجهد كبير من أجل أن تجمع حلفاءها الأوربيين فى حرب على أفغانستان وغزو ضمن أعلى واقوى مراحلها بعد الحرب الباردة، لكن الغزو أتاح فرصة لاتساع الإرهاب كم أخل بتوازن القوى الإقليمى.
واصلت الولايات المتحد تدخلاتها مع أوباما، وتم سحب قوات أمريكية من العراق، لكن أيضا كانت السياسات الأمريكية تتراجع لصالح فوضى متعددة الأوجه.
وظهر حجم التحول مع دونالد ترامب، وتجسد أكثر فى تشكيل القوى الدولية، الولايات المتحدة التى قادت تيار العولمة وحرية التجارة اعترضت على اختلال الميزان مع الصين، واتهمت واشنطن بكين بخرق قواعد التجارة الدولية، بل إن الولايات المتحدة سعت لمواجهة مع حلفاء تقليديين، وفرضت رسوما على وارداتها من بعض دول أوروبا، تزامنت مع اتهامات أمريكية لروسيا بالتدخل فى الانتخابات الأمريكية.
صعدت موسكو قوة دولية ذات نفوذ معنوى فاعل ومادى من خلال تحركات اقليمية فى سوريا وإيران وتجاه القضايا الدولية بدت فيها أكثر قدرة على المبادرة بينما تراجع الدور الأمريكى خطوات، خاصة مع إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن سحب قوات أمريكية وتقليل التدخل فى مناطق النزاعات، بينما موسكو توسع دورها الدبلوماسى والسياسى فى الصراعات الإقليمية والدولية فى سوريا وليبيا وتلتزم بنهج واضح فى التوتر مع إيران.
وحتى العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفاءها التقليديين، أصابتها الكثير من الشروخ ما قبل ترامب، بعد الكشف عن تجسس أمريكى على الحلفاء أثناء رئاسة أوباما، ومع ترامب تراجع الحماس الأوروبى للمغامرات الأمريكية. وهو ما تجسد أكثر فى الموقف من إيران، كاشفا عن حجم التحول فى مواقف أوروبا تجاه النوايا الأمريكية.
فى السابق جيشت الولايات المتحدة أوروبا خلفها فى غزو العراق، اليوم حتى بريطانيا أقرب حلفاء أمريكا وشريكها فى كل المغامرات السابقة تحاول حفر مسار خاص بها مع إيران لايقود للحرب، وهو نفس مواقف ألمانيا وأوروبا عموما ومعها الصين وروسيا.
الاتحاد الأوروبى نفسه الذى بدأ فكرة عام 1955 وتشكل فعليا بدابة التسعينيات، يواجه هو الآخر اختبارات بدأت بتصويت بريطانى على الخروج من الاتحاد ويواجه دعاوى يمينية بالخروج، وتستعد بريطانيا لمغادرة الاتحاد نهاية أكتوبر القادم فيما يعنى شكلا جديدا من عالم ما بعد الحرب الباردة والعولمة، حيث تجرى التحولات بسرعة كاشفة عن تحالفات اخرى وتكتلات جغرافية تحكمها المصالح.
كل هذا يبدو وكأنه إعادة تشكيل لعالم ما بعد الحرب الباردة وانتهاء قطبية الولايات المتحدة، مع ظهور أطراف متعددة اقتصادية وسياسية بما يعنى بداية عالم جديد يختلف عن عالم بداية الألفية.
الأمر لا يتعلق فقط بمجىء دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، ولكن بتداعيات أحداث جرت قبل عقد أو اثنين، وبالرغم من أن الولايات المتحدة تظل صاحبة أكبر قوة عسكرية وأكبر اقتصاد لكن النفوذ الدولى السابق للولايات المتحدة توزع بين أطراف أخرى انتزعت لنفسها مساحات من التأثير على مدى سنوات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة