بعد تسعة عشر شهرًا من تفجُّر القضية للمرة الأولى، أذاع التليفزيون الفرنسى فيلمًا وثائقيًّا بعنوان «شيطان فى جسد»، يُدين طارق رمضان، حفيد مؤسِّس الإخوان حسن البنا، فى وقائع اغتصاب عديدة بين فرنسا وسويسرا، ويستعرض شهادات عدد من الضحايا.
الفيلم المُذاع للمرّة الأولى أواخر مايو الماضى، يُمثّل وثيقة مهمّة، ليس فقط فيما يخصّ إدانة حفيد «البنا» بعد شهور من نفيه الاتهامات الجنسيّة التى طالته، لكنّه يفضح جانبًا خفيًّا من عقلية الإسلام الحركى، سواء ما يتّصل بـ«الإخوان» أو التيارات الخارجة من عباءة الجماعة، واستهلاك تلك الدوائر لخطابات القيم، بينما يتورّط رموزها فى ممارساتٍ ومسالك غريزيّة. وبين الأمرين يقعون فى تناقضاتٍ فجّة، لا تبدأ من انتهاك أجساد الأبرياء، ولا تنتهى بالتهرّب من الجرائم تحت لافتاتٍ سياسية ودينية.
كانت القضية قد تفجَّرت خلال أكتوبر 2017، واستمرّ «رمضان» فى المُماطلة والنفى أربعة شهور كاملة، حتى تأكَّدت السلطات الفرنسية من جدّية الاتهامات، واتّخذت إجراءات قانونية بحقّه، انتهت إلى توقيفه مطلع فبراير 2018، لكنه استمرّ فى النفى، مُحاولًا تصوير الأمر باعتباره استهدافًا سياسيًّا على خلفية مركزه الدعوى، ووضعيّته المُرتبطة بالتنظيم النشط فى عدد من الدول العربية والإسلامية. لكن الأمر انتهى لاحقًا باعترافه بإقامة علاقات جنسيّة مع عدد من الضحايا، مُدّعيًا أنها كانت «علاقات رضائية»، فى مراوغة جديدة لتخفيف العقوبة، واستمرار القبض على غِلالةِ الشعارات الدينية!
أسفر الصراع القانونى عن قرار بالسجن الاحتياطى تسعة أشهر، والإفراج عنه بكفالة 300 ألف يورو، مع سحب جواز سفره والمُداومة على إثبات وجوده فى مقر الشرطة مرّة كل أسبوع. وتولّت الدوحة سداد الكفالة، وكانت قد تحمّلت أتعاب المحاماة ومصروفات القضية التى تجاوزت 500 ألف يورو، بحسب ما كشف كتاب «أوراق قطر» للصحفيين الفرنسيين جورج مالبرونو وكريستيان شينو، اللذين أكَّدا استئجار الإمارة نقيب المحامين السويسريين مارك بونانت سعيًا لتبرئة «رمضان»، وتحويلها 590 ألف يورو إلى حساب باسمه؛ لشراء شقّتين فى شارع «جابريى بيرى» بالعاصمة باريس، وبلغ إجمالى الأموال التى دخلت حساب حفيد البنا من قطر 729 ألف يورو، كانت آخر دفعاتها 5 فبراير 2018، بعد حبسه فى فرنسا بثلاثة أيام، وجرى تمرير تلك المبالغ تحت لافتة عمله مستشارًا لمُؤسَّسة مملوكة للحكومة القطرية، إضافة إلى 19 ألف يورو من منظمات دينية دولية ترعاها الإمارة، منها رابطة مُسلمى سويسرا ورابطة القضية العادلة.
يُعرف المتهم الشهير بأنه أحد المرجعيات الفكريّة للتنظيم الدولى للإخوان، وهو ابن سكرتير حسن البنا فى الأربعينيات، سعيد رمضان، الذى تزوّج وفاء ابنة «البنا» وأنجب منها ولدين: «طارق» الذى يعمل أستاذًا للدراسات الإسلامية ويحمل الجنسية السويسرية، و«هانى» الذى يعمل فى مجال الدراسات الإسلامية ويرأس ما يُعرف بـ«مركز جنيف الإسلامى»، وطردته فرنسا خلال 2018 بعدما قالت وزارة داخليّتها إنه «يُشكّل تهديدًا خطيرًا للنظام العام».
بدأت فضائح طارق رمضان أواخر 2017. كان الأمر مُتداوَلًا فى السابق على نطاقات ضيّقة، وبشكل غير رسمىّ، لكنه أصبح مُعلنًا ومُثارًا على نطاق قانونى واسع فى أكتوبر من ذلك العام. ومنذ اللحظة الأولى حاول «رمضان» بما يملكه من شهرة، وما توفَّر له من دعم مُباشر من قطر والإخوان وتنظيمهم الدولى، قفز قائمة الاتهامات ووضعها فى مُربّع التشهير والترصّد السياسى، لكن باءت محاولاته بالفشل مع تعقُّد المشهد، وتوفُّر أدلّة وشواهد جديدة على إدانته.
رغم شهور المناورة والكذب، اضطُرّ حفيد البنا للاعتراف بإقامة علاقات جنسية مع سيدتين، تواتر ذكرهما ضمن أُخريات تحدّثن عن تعرضهن للاغتصاب والانتهاك الجنسى من الوجه الإخوانى البارز. وتزامن الاعتراف مع رفض القضاء الفرنسى إخلاء سبيله وقتها، للمرة الرابعة منذ توقيفه على خلفية الاتهامات.
فى سياق المراوغة ومحاولة الالتفاف على القضاء ومسار التحقيق، ادّعى طارق رمضان ودفاعه أن العلاقات المذكورة جرت بقبول من الأطراف الأخرى، وفى إطار «حالة رضا» كاملة. ونقلت شبكة «سكاى نيوز» عن محاميه قوله عقب إحدى الجلسات فى محكمة بالعاصمة الفرنسية، «إن الرسائل النصّية المُتبادَلة بين رمضان والسيدتين تُثبت كذبهما، وتؤكد أن العلاقات كانت بالتراضى». وجاءت تلك المناورة على ما يبدو للهروب من اتهامات الاغتصاب والانتهاك الجنسى، ووضعها تحت لافتة العلاقات الرضائيّة!
على الجانب الآخر، قال مُحامى إحدى السيدتين، إن «رمضان» يكذب طوال 11 شهرًا. وبالفعل يُشير مسار القضية إلى أن أكاذيبه نجحت فى تعطيل مُساءلته لفترة طويلة، بين إثارة الأمر فى أكتوبر وتوقيفه فى فبراير، وفسّرت «سكاى نيوز» اعترافه بأنه كان اضطراريًّا بعد الكشف عن مئات الرسائل الهاتفية المُتبادَلة مع الضحايا.
فى مارس التالى انضمت سيدة ثالثة للمُدَّعيتين اللتين كانتا تخوضان صراعًا قانونيًّا أمام القضاء الفرنسى. وقالت عقب تحريكها دعوى بحقّه، إنه اغتصبها 9 مرات فى باريس وبروكسل ولندن بين 2013 و2014. بعد ذلك شهدت القضية انضمام سيدة رابعة لقائمة المُتعرِّضات لانتهاكات واعتداءات جنسية من حفيد البنا، مُصرِّحةً باغتصابه لها فى جنيف بسويسرا.
فى تقرير أذاعته قناة «فرانس 24» وقتها، قِيل إن نتيجة فحص الخبراء والفنّيين لهاتف طارق رمضان وحاسبه الآلى، كشفت عن أدلّة وشواهد تنسف نفيه لإقامة أية علاقات مع المُدِّعيات. إذ أكَّدت النتائج، بحسب تقرير الخبراء الذى وصل للجهات القضائية وقتها، أن هناك مُحادثات ورسائل هاتفية تُدين المتهم.
رغم غرابة القضية وتطوُّرها الدرامى، لم يكن الأمر مُستغرَبًا فى مجموعه، ليس فقط بالنظر إلى مُمارسات الإسلاميِّين، سواء القضايا التى تورّط فيها سلفيون فى مصر، أو فضائح إخوان المغرب، ولكنَّه كان امتدادًا لخطٍّ قديم، بدأ داخل الإخوان فى سنواتها الأولى، وعلى مرأى ومسمعٍ من حسن البنا، مُؤسِّس الجماعة وجَدّ طارق رمضان، فى فضيحة شهيرة كان بطلها عبد الحكيم عابدين، وسكن فيها الشيطان جسد البنا نفسه!