فى أحد الأديرة القبطية بالدلتا، انحنت سيدة لتقبل مقصورة زجاجية تطل منها صورة أحد القديسين مطرزة على غطاء من القماش يكسو أنبوبة خشبية، وفوق المقصورة تلك تمجيد للقديس وقفت السيدة تتلوه وهى تطلب شفاعة القديس صاحب الرفات المحفوظة فى تلك المقصورة.
"الكنيسة تكرم بقايا ورفات القديسين"، يقول القمص يسطس فانوس كاهن كنيسة شبين القناطر ويوضح أن إكرام ذخائر القدّيسين والحفاظ عليها يعود إلى الأزمنة المسيحية الأولى، وهو تقليد مستمر فى كنيستنا، مشددا على أن الكنيسة لا تعبد هؤلاء القديسين ولكن المسيحية تكرّم الذخائر.
يوضح القمص المتخصص فى التراث المسيحى أن أجساد القديسين فى الشرق خصوصًا كانت "تنبش" (تكشف) وتقسّم أجزاء وتنقل من مكان إلى آخر، كانتقال ذخائر القديس "بابيلاس" سنة ٣٥١، وفى القرن الرابع كان نقل البقايا يتم باحتفالات مهيبة، مثل نقل بقايا القديس نيقولاوس إلى "بارى" فى ٩ مايو ونقل بقايا القديس يوحنا الذهبى الفم إلى القسطنطينية.
أما القس انطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا انطونيوس يوضح: أن رفات القديسين ليست قليل من العِظام بل هُم زينة الكنيسة وأحجارها الكريمة القديسين بأجسادهُم هُم وِعاء للروح وإن كانوا قد إنتقلوا للسماء لكن النعمة تظلّ فيهُم لذلك أصغر جُزء من أجسادهُم أو رِفاتهُم مُمجدّ .
ويضيف القس انطونيوس: نحنُ نتعامل مع الأجساد على أنّها نِفوس حيّة وليست عِظام لذلك يقول الله " أنا إله أحياء وليس إله أموات " حتى وإن كانت نفوسهُم قد انتقلت لكن عِظامهُم مُكرّمة فنجد عِظام إليشع النبىِ أقامت ميت موسى النبىِ ويشوع عندما خرجا مع الشعب من أرض مِصر أخذا معهُما عِظام يوسف العفيف لأنّهُ لا يليق أن تترُك عِظامهُ فىِ مِصر.
فى المقابل، يستشهد دكتور رياض فارس الحاصل على درجة الدكتوراة فى القبطيات بسيرة الأنبا انطونيوس أول راهب فى تاريخ الكنيسة وهى السيرة التى سجلها البابا أثناسيوس الرسولى، وهو البطريرك رقم 20 فى سلسلة بطاركة الإسكندرية، وترجمها القمص مرقص داود، يقول: أن تحنيط الأجساد بحجة «التبرك» بها ما هو إلا عادة وثنية ورثها المصريون عن الفراعنة، مثل الكثير من العادات الأخرى التى طغت على جوهر الإيمان المسيحى، فصارت مثل تلك العادات هى نفسها الإيمان المسيحى.
وينقل عن سيرة قديس الكنيسة الأشهر قوله: لما ألح الإخوة ليمكث (أنطونيوس) معهم ويموت هناك رفض لأسباب كثيرة، كان ينم عنها التزامه الصمت، وكان أخصها هذا السبب: أن المصريين معتادون إكرام أجساد الصالحين ـ لا سيما أجساد الشهداء ـ بالخدمات الجنائزية، ولفها بالأقمشة الكتانية عند الموت، وعدم دفنها تحت الأرض بل وضعها على أرائك، وحفظها فى منازلهم، ظانين أنهم بهذا يكرمون الراحلين.
مع الوقت تحول نقل أجساد القديسين لتجارة رابحة، وظهرت تلك الذخائر فى منازل الصفوة من الأقباط وبدأت تداولها على نقاط واسع فى كنائس وأديرة من بينها تلك التى لم تحظَ باعتراف الكنيسة مثل دير الانبا مكاريوس السكندرى بوادى الريان والذى يحتفظ ببعض من هذه الذخائر المقدسة رغم إنه ظل سنوات غير تابع لسلطة الكنيسة الرسمية.
الأنبا بنيامين مطران المنوفية يقول إن رفات القديسين وشعر وثياب يمثل بركة يجب أن تحفظ فى الكنائس ولا يصح أن تحفظ فى البيوت، ووفقا للمطران فإن أجساد الشهداء مكانها تحت المذبح، حيث أن الكاهن أثناء الصلاة يبخر لأجساد القديسين ورتب الكهنوت ويجب أن توضع فى مكان قريب من المنجلية (حامل الإنجيل).
واعتبر مطران المنوفية فى معرض إجابته عن سؤال حول تداول أجساد القديسين فى المنازل، أن تلك مسئولية تقع على عاتق الأب الأسقف لذلك يدشن الانبوبة التى تحوى أجساد القديسين وهناك صلاة مخصوصة لتدشين الأنابيب التى تحوى تلك الرفات المقدسة، ومن ثم لا يمكن إدخالها للكنيسة إلا بمشورة الأب الأسقف الذى هو حلقة الوصل بين المقدسات والشعب.
ورغم هذا الجدل الدائر بين آباء الكنيسة الأوائل الذين رفضوا تلك العادة وردوها إلى عادات التحنيط الفرعونية وبين الآباء المعاصرين، إلا أن الكنيسة تعتبر إحضار رفات قديس إنجازا تقيم له الاحتفالات ومن ذلك ما جرى فى افتتاح الكاتدرائية قبل 51 عاما حين احتفل البابا كيرلس السادس بإحضار رفات القديس مرقس الرسول مؤسس كنيسة الإسكندرية، إلى مصر وذلك فى احتفال مهيب.
تتلازم عادة الاحتفاظ برفات القديسين فى الكنيسة المصرية، مع طقس آخر وهو طقس تطييب الرفات الذى يجرى وسط صلوات واحتفالات، حيث يصنع حنوط البركة، وهو المادة المستخدمة فى التطييب فى طبق حديدى، يسكب الكاهن زيتًا من العطر، وزيت الناردين المعطر، وهو أحد الزيوت المقدسة لدى المسيحيين، حيث سكبته امرأة على وجه المسيح وفرح بذلك، ويوضع المزيج مع مواد كيميائية عطرة لتصنع منها ما يشبه العجينة التى تتلى فوقها الصلوات والتراتيل، ويدهن به الأنبوب المعدنى الذى يحتفظ برفات القديس.
وتطييب الرفات بحسب المفهوم المسيحى قد حدث بعدما طيبت ثلاث من النساء اللاتى يحملن اسم مريم قبر المسيح، كما يذكر الانجيل «وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطًا لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّه»ُ.