كيف انتهى بى الأمر مُمددة هكذا على جانب الطريق؟.. هل فررت من ضجيج القاهرة؛ لأحصل على تلك النومة المرهقة هنا؟.. ولماذا يتجمع حولى هولاء الحمقى هكذا؟.. لماذا لم يمد أحدهم يده، ويزيح عنى تلك الصفحات المتراكمة على وجهى، أكاد اختنق؛
ربما يظن هؤلاء الحمقى أنى مت، بل هم بالفعل يعتبروننى كذلك؛ وإلا فلماذا يدثرونى هكذا بكومة من صفحات الجرائد، التى هربت منها فى العاصمة؟.. وها هى تجثم على صدرى هنا أيضا، كيف أخبرهم أنى مازلت هنا؟.. أنى مازلت عضوا عاملا مثلهم تماما فى هذا الكوكب البائس.
كل ما فى الأمر أنى فكرت فى قليل من الراحة الشاملة، لم أقصد يا الله أن تمنحنى راحة دائمة، حتى وإن طلبتها أحيانا، تعلم بالطبع أنك لم تمنحنى حتى الأن القدرة على الإخلاص فى الطلب.
أردت فقط نزهة قصيرة، ربما أعود بعدها أفضل، هكذا كان الاتفاق بيننا، ليس لأننى أحب العودة، ولكنك لم تُعطنى خيارات أخرى، إما العودة أو الرحيل لا ثالث لهما، كنت أبحث عن مساحة تتوسطهما فى هدوء ، تلك المساحة التى ذهبت إليها برغبتى، وأعجز عن العودة منها الأن.
أوهم نفسى دائما أنى أسير وفقا لطريق حددتها لنفسى، ولكن الحقيقة أنك تتدخل فى كل شئ، أرجوك لا تسئ الظن بى، عفوا، أعرف أن إساءة الظن صفة بشرية خالصة، تُرى من أين أتى بها بنو البشر؟!.. مَن منحهم إياها، وميزهم بها؟!.. ولكن دعنا من تلك المسألة، ربما نتحدث فيها لاحقا، لا يشغلنى اليوم بنو آدم، ، لدى ما هو أهم الأن، أشعر أنى مازلت على قيد الحياة، بينما يرى هؤلاء الحمقى أنى قد فارقتها.
فهل تخبرنى أنت الحقيقة؟.. هل مُت حقا، أم مازال فى العمر بقية؟.. ماذا ترى يا ربنا فيما ترى؟.. أمُت حقا؟ أم أن هؤلاء الحمقى أساءوا تقدير حالتى؟
انتظر!.. ولماذا انتظر؟!.. لماذا لا تمنحنى أنت القدرة الأن على قول الحقيقة؛ لأصرخ فى وجوه هؤلاء الحمقى، أنى مازلت على قيد الحياة؟
انتظر!.. ماذا أفعل لو انتظرت الطبيب، فتآمر معهم ورأى مثلهم أنى ميتة بالفعل؟ كيف أقنعهم أن الطبيب مخطئ، لن يصدقوننى بالطبع، سيقولون أن الطبيب يعرف أكثر؛ فدائما يرى الحمقى أن الأطباء يعرفون أكثر.
وماذا سيفعل الطبيب إلا أن يضع سماعته الحديدة الثقيلة على قلبى الراقد، فلن يسمع له صوتا، نعم، لن يسمع شيئا، ربما يعبس وجهه قليلا، ثم يخبر هؤلاء الحمقى المحيطين بى: البقاء لله.
فى الحقيقة يا الله أنى لم أمت، نعم، لم أمت، فقط منحت قلبى قليل من الراحة هو أيضا، ألا يحق له أن ينعم ببعض السكينة، استأذننى، ووافقت؛ رفقا به، وبدمائى التى أعياها الركض فى دائرتى المغلقة منذ ثلاثة عقود دون توقف، فلم تخذلنى يوما، يحق لهما بعد كل تلك السنوات، أن ينالا قدرا من الراحة.
لن أطيل عليك، فكثيرا ما أطلت عليك سابقا، تعرف بالطبع قصة الأعرابى الذى دعاك بعد أن فرغ من الصلاة قائلا: يا رب أغفر لى وحدى، فبعد أن انتهى من الدعاء لامه الحاضرون: يا رجل أدعو بالرحمة والمغفرة لنفسك ولسائر المسلمين، فقال لهم الأعرابى: أخشى أن أثقل على ربى.
سأفعل كما رأى الأعرابى، لن أطلب الكثير اليوم، فقط امنحنى القدرة كى أخبر هؤلاء الحمقى أنى مازلت هنا..
تُرى هل أكفر عن جريمتى بحق تلك الصغيرة التى قتلتها هذا الصباح؟..
لكنى لم أملك خيارا آخر، كانت تعرف أنى سأفعلها، حذرتها شقيقتها الكبرى، ولم تستمع لنصيحتها.
كانت تنظر لى كل صباح، وابتسامة ساخرة تعلو وجهها الأبيض الناصع، وتقول لى:
"أعلم جيدا أنى غير مرحب بى هنا، ضيف ثقيل، كل الحق معك يا عزيزتى، فأنا ثقيلة جدا بالفعل، وإن بدوت أخف كثيرا من ريشة هائمة فى صُحبة نسمة صيف هادئة.
أحمل على جسدى النحيف فى صمت آثار ذكريات آلاف الأيام، ندبات الذعر والألم والحزن، عندما أتيت لزيارتك، تلك الزيارة التى تودين لو أنها لم تحدث أبدا، جئت بحثا عن شقيقتى الكبرى، سبقتنى إليكِ منذ شهور، واختفت فى جنبات بستانك الزاهر.
حاولت اقتفاء أثرها، ولكن تلك الخصلات السوداء المتعجرفة التى تسكن بستانك، اللاتى ظننت بهن خيرا؛ لأننا إخوة، وإن اختلفت ألواننا، لم يمددن يد العون لى، لا أدرى كيف أحسنت الظن بهن؟.. ألم يقتل قابيل أخاه من قبل؟.. كيف اعتقدت أنهن سوف يساعدوننى فى البحث عن شقيقتى؟.. يالفرط سذاجتى!"
قالت لى أنها قرأت ذكرى لقائى الأول بشقيقتها، ولما استنكرت عليها التلصص على أفكارى، قالت ضاحكة:
"تنسين دوما يا عزيزتى أنى أسكن الأن تلك الغابة السوداء، نبتة شيطانية بيضاء ضربت جذورها فى رأسك الشاب، فأطلَّع دوما على ما يدور بداخله، يوم وقعت عيناكِ على شقيقتى الكبرى، لأول مرة، تغوص وسط أمواج خصلاتك السوداء، لم تكترثى لأمرها. لكنك عُدتِ فى المساء بعد أن وصلك إليكِ خبر وفاة زميل يُقاربك فى العمر، أحزنك رحيل شاب جرفه تيار المرض الخبيث إلى الجانب الآخر من الشاطئ، تاركا زوجة وطفل لم تمهله الأيام الوقت الكافى؛ ليحفر صورة أبيه فى ذاكرته.
جئت تحملين إليها ضغينة رأتها فى عينيك، وأنت تبحثين عنها بجنون، أتذكرين؟..تفحصتها جيدا، اعتبرتِ شقيقتى نذير شؤم عليكِ، فخَشِيت على نفسها من نظرتك الغاضبة، فتوارت بين شُجيراتك السوداء الصغيرة، وضاعت إلى الأبد.
جئت أبحث عنها، وددت لو عرفت مكانها، وضعت معها فى سواد شعرك الحالك، أعرف أنها تسكن نفس البستان، ربما لا تراها عيناى، ولكن قلبى يشعر بها، واتنفس رائحتها.
ولكن ذوات البشرة السمراء من إخوتى، اشترين خاطرك أنتِ يا صاحبة البستان، ورفضن مساعدتى فى الوصول لشقيقتى؛ فاصطفيت لنفسى تلك البقعة، أرقد هنا على الجانب الأيسر من وجهك، لألمح تلك النظرة الغاضبة فى عينيك كل صباح؛ انتقاما لشقيقتى، لا أُخفى عليك بهجتى بتلك النظرة، سعادتى أنى أثير حنقك مع شمس كل يوم جديد.
أعرف أنك تكرهين اختلاطى بخصلاتك السوداء، تخشين عليهن منى، ترتعبين أن يتسمم جسدهن اليافع بصبغتى البيضاء، تنظرين إلىَّ فى صمت، ولكنى أشعر توتر عقلك، وخفقان قلبك، كلما نظرتى فى المرآة، تعتبريننى أول الغيث، ولطالما ارتعبتى من المطر المنهمر، تعشقين الشتاء، ولكنك تخشين أمطاره الشديدة، أى شتاء دون أمطار أيتها الحمقاء!
أنا ثانى قطرة، فانتظرى يا صغيرتى انهمار الغيث قريبا.
مرت أيام كثيرة تتربصين بى فى صمت؛ حتى وجدت شقيقتى، سمعتها تهمس لى ليلة مقتلى: "ظنت الصغيرة أنى نذير شؤم، فآثرت الاختباء بعيدا، أهربى يا صغيرتى، فلن تدعك تلك الفتاة تهنأين بالنظر إلى عينيها كل صباح."
يبدو يا عزيزتى، أنى نذير الشؤم، وليست شقيقتى، فبينما يتمدد جسدك على جانب الطريق دون رغبتك، أرقد أنا أيضا على غير رغبتى فى راحة كفك الصغير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة