التلويح المتواتر من قبل رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون، بالخروج من الاتحاد الأوروبى دون اتفاق، فى أكتوبر المقبل، يمثل حلقة جديدة مما يمكننا تسميته بسياسة "الإبن الضال"، والتى طالما استخدمتها بريطانيا فى مواجهة محيطها الأوروبى، منذ بداية تأسيس التكتل الأوروبى، فى الخمسينات من القرن الماضى، وهو ما بدا واضحا فى النهج الذى تبنته لندن، منذ البداية، حيث كانت بمثابة الشوكة فى حلق أوروبا الموحدة منذ ذلك الحين، عبر تبنى مواقف مناوئة للقارة العجوز، للحصول على مزايا استثنائية.
ولعل الإرث الصراعى بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، والذى دام لعقود طويلة من الزمن، هو السبب الرئيسى وراء المواقف البريطانية، والتى اتسمت لفترات بالخروج عن خط الوحدة الأوروبية، وهو ما بدا واضحا فى رفض الرئيس الفرنسى التاريخى شارل ديجول لانضمام بريطانيا إلى التكتل، مرتين متتاليتين فى عامى 1963 و1967، لتنضم بعد ذلك بستة سنوات كاملة، وتحديدا فى عام 1973، إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية.
ولكن بالرغم من انضمامها إلى التكتل الأوروبى، احتفظت الحكومة البريطانية بتفردها، النابع عن تاريخها الإمبراطورى، من خلال إثارة المواقف الجدلية حول العديد من القضايا، من بينها رفض رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر للشكل الفيدرالى للاتحاد، بالإضافة إلى خروج بريطانيا عن خط العملة الموحدة "اليورو"، وإصرارها على الاحتفاظ بعملتها "الجنيه الاسترلينى".
يبدو أن التمرد البريطانى المتواصل على أوروبا الموحدة، فتح الباب أمام العديد من المزايا التى جعلت المملكة المتحدة تحتفظ بكونها سلطة موازية للاتحاد، رغم خضوعها للعديد من قواعده، منها احتفاظها بالسيطرة على عدد من الدول الأوروبية تحت إدارة التاج البريطانى، لتصبح اتحادا موازيا للكيان الأوروبى المشترك، حيث استغلت الحكومات البريطانية المتعاقبة حاجة أوروبا إلى اقتصادها القوى، لتضع الاتحاد الأوروبى فى خانة الطرف الأضعف، الذى ينبغى أن يقدم التنازلات فى كل مرة للقوى البريطانية.
بريطانيا استفادت كثيرا من ابتزاز أوروبا، حيث لوحت بورقة الانسحاب من الاتحاد الأوروبى، لإجباره على دعمها فى مواجهة دعوات الانفصال فى أسكتلندا، والتى أسفرت عن إجراء استفتاء تاريخى للخروج من سيطرة التاج البريطانى، وهو الأمر الذى أتى بثماره فى نهاية المطاف بفضل دعم الاتحاد لبريطانيا، حيث أطلق الاتحاد الأوروبى حملة شككت فى مستقبل العملة الأسكتلندية فى حالة الانفصال عن بريطانيا، وبالتالى كانت النتيجة هى رفض الأسكتلنديين للاستفتاء بنسبة 55%.
ولكن بالرغم من ذلك مضت حكومة رئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون فى طريق الانفصال عن أوروبا، لاسترضاء المواطنين، الذين عانوا كثيرا من جراء زيادة معدلات الهجرة، وتأثيرها على فرصهم الاقتصادية، وانتهت المسألة بالتصويت لصالح الانفصال فى صدمة، دفعت كاميرون للاستقالة، ربما لفشله فى رد الجميل الأوروبى الذى ساهم فى الحفاظ على بقاء أسكتلندا تحت السيطرة البريطانية.
مواقف كاميرون لم تختلف كثيرا عن مواقف ماى، والتى حاولت استرضاء أوروبا عبر تطبيق خروج "شكلى"، يمكن من خلاله الحفاظ على وجود بريطانيا فى السوق الأوروبية، وكذلك خضوعها لمحكمة العدل الأوروبية، ولكنها فشلت هى الأخرى فى ظل الرفض المتواتر للبرلمان للاتفاق، لينتهى الأمر باستقالتها.
وهنا يمكننا القول أن رؤية جونسون، والتى تقوم على المجاهرة بالعداء تجاه أوروبا عبر التلويح بالانسحاب بدون اتفاق، ربما تفتح الباب، أمام مزيد من التنازلات الأوروبية، والمتعلقة بمسألة أيرلندا الشمالية، والتى تعد بمثابة المعضلة الرئيسية أمام تمرير اتفاق ماى مع أوروبا، حيث يسعى رئيس الوزراء البريطانى إلى دعم أوروبى جديد لبقاء أيرلندا الشمالية كجزء من المملكة المتحدة، خاصة وأن مسألة الخروج بدون اتفاق، وإن كانت ستؤدى إلى تداعيات كبيرة على بريطانيا، إلا أنها فى الوقت نفسه ستمثل ضربة قوية للاتحاد الأوروبى، ليس فقط فيما يتعلق بالجانب الاقتصادى، والذى حاولت ماى الحفاظ عليه فى اتفاقاتها مع قادة بروكسيل، ولكن أيضا حول مستقبل الاتحاد برمته، حيث يبقى "بريكست" بدون اتفاق بمثابة اللبنة الأولى فى انهيار الاتحاد الأوروبى.