ظهر المعتقلون الأربعة، الدكتور يوسف إدريس، والفنان زهدى، والكاتبان إبراهيم عبدالحليم، وفتحى خليل فى قصرعابدين بثياب شبه متسخة وممزقة، حسب وصف الكاتب أحمد عباس صالح فى مذكراته «عمر فى العاصفة».. تم الإفراج عنهم بقرار من صلاح سالم، عضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو ووزير الإرشاد القومى، يوم 1 سبتمبر 1955، ليتدخلوا لدى الحزب الشيوعى السودانى لتأييد رؤية مصر فى الوحدة مع السودان..«راجع، ذات يوم 1 سبتمبر 2019».
كان عباس صالح فى قصر عابدين يوم الإفراج ليرى صديقه يوسف إدريس، ويتذكر مشهد استقباله: «عندما استقبلت يوسف إدريس بالأحضان، كان مذهولا ولم يكن يعرف كيف أفرج عنه، ولماذا، والأعجب من كل ذلك، ما علاقتى أنا بالموضوع، وما الذى جاء بى إلى هذا المكان؟ وربما لم يكن يعرف علاقتى الشخصية بمحمد أبى نار «نائب صلاح سالم»، تلك العلاقة التى نشأت فى الغالب ويوسف فى المعتقل، كانت الأمور كلها مشتبها بها، فنحن نسمع بين وقت وآخر عن علاقة زميل أو آخر بالسلطة، وهى علاقة مشبوهة لصلتها بالأمن والتجسس، فهل أنا صديقه الموثوق من هذا النوع من الناس؟».. هكذا ذهبت ظنون «صالح» لكنه قطعها بأن رأى أن «إدريس كان فى حاجة إلى أن يخلع عنه وعثاء السجن ويستحم بدنا ونفسا قبل أن يعيد التفكير فى أى شىء».. ويتذكر: «ربما ذهبت إليه فى اليوم التالى 2 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1955 ورويت له تفاصيل القصة».
يوظف الدكتور إيمان يحيى فى روايته شالزوجة المكسيكية» هذه القصة دراميا، والتى تلتقط قصة زواج مجهولة لإدريس من مكسيكية تدعى «رُوث» ابنة دبييجو ريفيرا أشهر فنانى الجداريات فى العالم، وتم الزواج بعد لقاء فى مؤتمر فيينا للسلام عام 1953.. ويذكر أحمد حمروش القصة فى كتابه «قصة ثورة 23 يوليو» قائلا: «وصل الأربعة إلى قصر عابدين، حيث كانت مكاتب وزارة الإرشاد فى ذلك الوقت، بثياب ممزقة وأجسام هزيلة بعد معاملة بوليسية قاسية، ودخل الأربعة على صلاح سالم فى مكتبه، فاستقبلهم استقبالا حارا، وأبدى استنكاره لمظهرهم، واتصل تليفونيا، حسب رواية فتحى خليل، بزكريا محيى الدين وزير الداخلية، طالبا وقف المعاملة الشاذة للمعتقلين فى سجن أبوزعبل».
يؤكد «حمروش» أن صلاح سالم قدم للمعتقلين تحليلا سياسيا استمر ثلاث ساعات ركز فيه على : «المفهوم العام لقيادة الثورة وتصور خط سيرها مع تحفظ بعض العناصر على الاتحاد السوفيتى بتأثير دعاية الغرب، وأرجع غموض موقف الثورة من الشيوعيين إلى خشية البعض من اتهام الحركة بأنها شيوعية، وأبرز نقاط الخلاف مع الولايات المتحدة وخاصة رفضها إمداد مصر بالسلاح»..يضيف حمروش: «خلص صلاح سالم من ذلك إلى أن هناك تغييرا فى الخط السياسى للثورة يتلخص فى: أولا.. فى السياسة الخارجية، استقرار الثورة على توثيق العلاقة مع الاتحاد السوفيتى والصين والدول لاشتراكية.. ثانيا: فى قضية الديمقراطية.. وضع دستور جديد وإعداد انتخابات عامة وتشكيل برلمان.. وأكد لهم أن هذين الاتجاهين سوف ينطلقان بأقصى قوتهما فى منتصف عام 1956، وفاجأهم بخبر لم يعرفه أحد وهو تعاقد مصر مع الاتحاد السوفيتى على توريد صفقة سلاح.. ووعدهم بالإفراج عن جميع الشيوعيين قبل 23 يوليو 1956».
انتقل «سالم» إلى الحديث عن «الحزب الشيوعى السودانى»، وقال إننا تجنبناه لموقفنا من الشيوعية فى مصر، وكان فى التأييد والمعارضة حزبا مبدئيا شريفا، وحقيقيا وغير ملوث، وكشف عن أن قيادة الحزب «عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد» رفضا عرضا بمساعدات فى حدود العمل الوطنى مثل إقامة السرادقات أوالإمداد ببعض الأموال.. أضاف، أن الحزب منقسم بين التأييد والمعارضة، وموقف الحكومة المصرية من الشيوعيين يلعب دورا كبيرا فى ترجيح جانب على آخر..ولو تحول الأمر إلى التأييد فإن هذا قد يخرج الموقف فى السودان من دائرة اليأس.
يؤكد حمروش،أن «سالم» طلب من الأربعة إذا اقتنعوا بصدق تحليله السياسى فسيسافرون إلى السودان لإقناع قيادة الحزب الشيوعى هناك بتأييد خط الاتحاد مع مصر، واتفقوا على مهلة أسبوع للرد.. يذكر «يحيى» بطل «الزوجة المكسيكية» وهو يوسف إدريس فى الحقيقة: «طلبنا مهلة أسبوع للتفكير، وبالطبع كان فى ذهننا أن نرجع إلى القيادة فى السجون لنأخذ رأيها، وقبل أن نخرج من باب مكتبه فاجأنا بقوله: تستطيعون الذهاب إلى بيوتكم».. خرج الأربعة لكن لم يعودوا،لاستقالة «سالم» واعتكافه فى منزله.
الغريب أن الكاتب والشاعر شعبان يوسف يسخر من هذه القصة فى كتابه «ضحايا يوسف إدريس وعصره».. يراها: «قصة ساذجة جدا، يكتبها حمروش، ويصدقها الجميع دون أى مراجعة، ودون التشكيك فى مفرداتها، ويتناولها كل متابعى سيرة إدريس، وكأنها حقيقة واقعية قائمة فى حياته، لذلك أفرجت السلطة عنه وأوفدته بملابس السجن فورا إلى السودان».. اللافت أن شعبان يقطع بزيف ما يذكره «حمروش»، متجاهلا شهادة أحمد عباس صالح الذى كان طرفا فيها، والاثنان يتفقان على أنه لم يسافر أحد من الأربعة إلى السودان.