يبدو أن التحدى الأكبر الذى يواجه رئيس الوزراء البريطانى الجديد بوريس جونسون يأتى من داخل حزب المحافظين، الذى ينتمى إليه، وهو الأمر الذى يدركه جيدا، ويمثل سببا رئيسيا فى قراره الأخير بتعليق أعمال البرلمان البريطانى، والذى يحظى بأغلبية "محافظة"، لمدة 5 أشهر، فى قرار أثار الكثير من الجدل فى الآونة الأخيرة، خاصة وأن قطاعا كبيرا اعتبره انتهاكا للمبادئ الديمقراطية التى طالما تشدقت بها القوى الدولية الكبرى، فى الغرب لعقود طويلة من الزمن، لتصبح المعضلة الرئيسية التى ستواجهه، هى الكيفية التى يمكنه من خلالها السيطرة على زمام الأمور داخل معقله الحزبى، فى المرحلة المقبلة.
ولعل معضلة جونسون تتشابه إلى حد كبير مع تلك التى واجهت الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى بداية حقبته، كرئيس للولايات المتحدة، حيث كان الانقسام بين الجمهوريين حول سياساته تمثل التحدى الأكبر الذى يواجهه، ربما أكثر من التهديد الذى مثله خصومه الديمقراطيين بالنسبة له، وهو ما بدا واضحا فى موقفه الحاد الذى تبناه تجاه قيادات بارزة، وعلى رأسهم السيناتور الراحل جون ماكين، والذى لم يتوقف هجوم ترامب عليه بعد وفاته، بالإضافة إلى نجاحه فى إقصاء خصومه، وعلى رأسهم رئيس مجلس النواب السابق بول رايان، والذى قرر فى أبريل من العام الماضى، عدم الترشح لانتخابات التجديد النصفى، والتى عقدت فى شهر نوفمبر الماضى، والتى تمكن خلالها الديمقراطيين بأغلبية مجلس النواب.
كسر التابوهات.. ترامب تخلى عن الأيديولوجية الحزبية وراهن على المواطن
يبدو أن نجاح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى قيادة الدفة فى واشنطن يكمن فى نجاحه فى كسر التابوهات الحزبية للجمهوريين، وسعيه إلى تقويض إرثهم، والذى سيطرت عليه النزعة العسكرية، لحسم سيطرتهم على مناطق مختلفة حول العالم، وهو النهج الذى سعت الإدارة الحالية إلى تقويضه على العديد من الجبهات، ربما أبرزها الملف الكورى الشمالى، والذى نجح الرئيس الأمريكى فى اتخاذ خطوات واسعة لتحقيق التقارب مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، بالإضافة إلى رغبته العارمة فى تخفيف التواجد العسكرى الأمريكى فى العديد من مناطق النزاع الدولية حول العالم، وهو الأمر الذى لا يروق إلى حد كبير لتيار الصقور داخل الحزب الجمهورى.
ترامب وماكين
ولكن يبقى الظهير الشعبى المتنامى لترامب هو أبرز الداعمين له، فى حربه ضد المارقين من بنى حزبه، حيث خرج منتصرا فى معاركه معهم بفضل انحيازه لإرادة المواطنين غير المسيسين، الذين لا يعتنقون أجندات حزبية، خاصة فيما يتعلق بنمو الاقتصاد الأمريكى، والذى يمثل أولوية قصوى لرجل الشارع العادى، بينما يعد تخفيف النزعة العسكرية أحد أهم الوعود الانتخابية التى قطعها الرئيس الأمريكى على نفسه خلال حملته الانتخابية، والتى لاقت قبولا شعبيا، خاصة وأن الانغماس فى الحروب كلف واشنطن الملايين من الدولارات وآلاف الأرواح، كما جعلها هدفا للإرهاب الدولى، وبالتالى لم يكن أمام الحزب الجمهورى سوى الرضوخ لرغبات الرئيس الطامح لإعادة صياغة أيديولوجية حزبه، أو خسارة معركة أكبر أمام الخصوم الديمقراطيين، بسبب حالة الانقسام فى الداخل الحزبى حول رؤية الرئيس وسياساته.
نفس المعضلة.. الانقسام يهدد سلطة جونسون فى بريطانيا
وهنا يمكننا القول إن رئيس الوزراء البريطانى الجديد يواجه نفس المعضلة، فى ظل الانقسام داخل حزب المحافظين حول سياساته فى المرحلة الراهنة، وعلى رأسها مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبى، وتلويحه المتواتر باتخاذ الخطوة دون اتفاق مع قيادات التكتل، وهى القضية الأبرز على الساحة البريطانية فى المرحلة الراهنة، فى الوقت الذى يحاول فى خصومه من حزب العمال، استغلال حالة الشقاق الراهنة فى صفوف المحافظين لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية، وهو ما بدا واضحا فى اتهامات زعيم المعارضة العمالية جيريمى كوربين لرئيس الوزراء بتقويض الديمقراطية إثر قراره بتعليق أعمال البرلمان، فى محاولة واضحة لزيادة الشقاق داخل حزب جونسون من جانب، بالإضافة إلى تشويه صورته فى الشارع البريطانى من جانب آخر.
جونسون يبدو مدركا لتداعيات انقسام المحافظين، وهو ما يبدو واضحا فى تحذيره الصريح، لأعضاء حزبه، حيث طالبهم بالاختيار بين دعم قراراته أو القبول بزعيم "العمال" جيريمى كوربين رئيسا للوزراء، وهو ما يعد بمثابة مساومة صريحة لحلفائه المارقين داخل حزب المحافظين، يسعى خلالها جونسون إجبارهم على الدوران فى فلكه بعيدا عن أية أبعاد أخرى، سواء حزبية أو أيديولوجية، وذلك للحفاظ على السلطة داخل الحزب، خاصة وأن الرهان على أنصار الحزب من المواطنين، لا يصب بأى حال من الأحوال فى صالح الأيديولوجيات أو التوجهات الحزبية.
ففى استطلاع للرأى نشرته صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأمريكية، فإن 8% فقط من البريطانيين يصنفون أنفسهم كحزبيين، فى حين أن أكثر من 40% يعتبرون أنفسهم خارجين على الأحزاب السياسية، وبالتالى فإن الرهان على الأيديولوجيات الحزبية فى بريطانيا قد انتهى عصره.
رهان جونسون.. الاقتصاد والمواطن "العادى" أولوية
وهنا يصبح رهان جونسون لإحكام السيطرة على حزب المحافظين، هو نفسه رهان ترامب منذ صعوده إلى البيت الأبيض، والذى يقوم على مغازلة المواطن البريطانى، عبر تحقيق حالة من الاستقرار، وطمأنة المواطنين على مستقبل الاقتصاد فى بلادهم فى مرحلة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبى، مع تزايد حالة القلق داخل الأراضى البريطانية جراء التداعيات المترتبة على تلك الخطوة.
ولعل ما نشر فى الآونة الأخيرة، حول نية حكومة جونسون تقديم مليار جنيه استرلينى للرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى تقديم 3.5 مليار أخرين للمجالس المحلية دليلا دامغا على رغبتها فى توفير الخدمات للمواطنين، فى محاولة صريحة لاسترضائهم، وذلك بعدما فشلت الحكومات السابقة فى احتواء مخاوفهم الكبير من المستقبل الاقتصادى للبلاد.
ويمثل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب جزءا هاما من رهان جونسون، خاصة وأنه تعهد بتوقيع اتفاق تجارى، ستحصل خلاله بريطانيا على مزايا واسعة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبى، حيث ستصبح لندن العاصمة الأوروبية الوحيدة التى تنعم بالسخاء الأمريكى بعد شهور طويلة من الإجراءات الأمريكية التى طالت دول القارة العجوز، قامت على فرض الرسوم الجمركية القادمة منها إلى الأراضى الأمريكية، وهى الإجراءات التى اعتبرها قطاع كبير من المتابعين بأنها نقطة فارقة فى العلاقة بين أمريكا وحلفائها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة