فى عالم السياسة الخطاب العلنى يختلف عن الخطاب الخفى، الذى يدور وراء الكواليس، الخطاب المعلن يكون موجها لجمهور محلى أو مؤيدين إقليميين، بينما الخطاب الواقعى يدور وراء الجدران، ومن خلال رسائل سرية أو تصريحات مبطنة، ويبدو هذا واضحا فى حالة الدول التى تتبنى خطابا صارخا حول النفوذ، بينما تواجه مشكلات بسبب هذه المساعى، ويظهر هذا المثال فى حالة تركيا بشكل واضح. ومن يتابع خطاب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان قبل أسبوعين فقط، يكتشف الفرق بينه وبين خطابه وحكومته ووزرائه خلال الأيام الأخيرة.
فى البداية، كان الخطاب التركى يتحدث عن التدخل فى ليبيا ومساندة الميليشيات المسلحة، وتم توقيع اتفاق مع السراج حول ليبيا، وصور أردوغان الأمر على أنه انتصار، بالرغم من علمه أنه عقد اتفاقا هشا مع سلطة منقوصة، فى ليبيا التى تعانى من التنظيمات الإرهابية. وأجبر أردوغان البرلمان التركى على تدعيم خطوة إرسال قوات إلى ليبيا، وخرج فى جولات أردوغان لترويج مطالبه لدى دول المغرب العربى، وبعد أن واجه الرفض أولا من البرلمان والشعب الليبيى، ثم من أوروبا والمغرب العربى، عاد ليعلن أنه لم يرسل جنودا، وإنما خبراء عسكريون، وانطلق وزير خارجية تركيا فى تصريحات وتدوينات يؤكد فيها أن بلاده لا تريد الصدام، بل إن أوغلو أطلق تدوينات عن أهمية وفوائد التعاون حول غاز المتوسط، مع رسائل لمصر، وتزامن هذا مع انطلاق لجان تركيا وقطر لترديد تدوينات أوغلو وزير خارجية أردوغان.
على الأرض كان الجيش الوطنى الليبى يواصل تقدمه لاستكمال طرد الإرهابيين والميليشيات التركية وغيرها من سرت، ويستعد لمصراته وطرابلس، وهو ما جعل أردوغان فى موقف صعب أمام جمهوره، حيث يخسر رهانه الجديد على ميليشيات الإرهاب فى ليبيا بعد أن خسر الرهان فى سوريا، وبالطبع فإن كل هذه التحركات تحتاج إلى إنفاق مع توقف إمدادات النفط المسروق الذى حصل عليها أردوغان طوال 7 سنوات من الأراضى السورية والعراقية تحت سيطرة تنظيم داعش.
ولاتزال القوات التركية تواجه مقاومة فى سوريا وتخسر القوات التركية يوميا، جراء العمليات ضدها، وآخرها كان مقتل 3 عسكريين أتراك بانفجار سيارة مفخخة فى ريف رأس العين شمال سوريا.
تركيا التى شهدت انتعاشا اقتصاديا خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بدأت فى منحنى هبوط خلال العقد الثانى، بسبب مغامرات البحث عن نفوذ إقليمى، والرهان على التنظيمات الإرهابية. وعندما شعر أردوغان بمأزق غزو ليبيا، بدأ تحركاته نحو روسيا فى محاولة لإنقاذ حلفائه، مع تقدم الجيش الوطنى الليبى، حيث سعى لإطلاق مبادرة مع الرئيس الروسى بوتين لوقف إطلاق نار فى ليبيا، وكان رد الجيش الوطنى الليبيى حاسما برفض هذه المبادرة واستمرار تطهير ليبيا من الميليشيات الأجنبية المسلحة.
كما جاءت الردود المغاربية تتجه نحو رفض التدخل الخارجى، وأيضا مواجهة تمرير الأسلحة إلى الميليشيات فى ليبيا، وكل هذا يخرج التنظيمات الإرهابية من المشاركة فى أى حل سياسى قادم، ويجعل القرار لليبيين أنفسهم وهو ما يضيع رهان الرئيس التركى على تحصيل أى مساحة للنفوذ فى ليبيا.
ومن صفر مشاكل، إلى ازدحام الخصومات شرقاً وغربا، وحتى حلفاء وجيران تركيا أنفسهم أصبحوا خصوما، وتصاعدت الأزمات بين أردوغان وألمانيا وأخيرا مع فرنسا، عندما أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون خلال اجتماع حلف الناتو أن أردوغان يحارب مع داعش والتنظيمات الإرهابية فى سوريا، وحتى العلاقة مع روسيا تقوم على الشك منذ الصدام على الأراضى السورية، واليوم يخسر رهاناته على ليبيا، ليدخل عاما جديدا محملا بعلاقات عداء مع أغلب دول العالم مع مساحات كبيرة من الشك فى نواياه داخليا حيث يخسر الاقتصاد بسبب استنزاف المغامرات، وإقليميا بعد خسارة رهانه على الإرهاب والحرب بالوكالة.