وقعت فى الأيام القليلة الماضية جريمة بشعة عندما قتل طفل فى قرية حفنا التابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية شقيقه، مما يذكرنا بقصة قابيل وهابيل فى التراث الإنسانى والدينى، وكانت هذه القصة بمثابة "أيقونة" عمل عليها كثير من الكتاب الكبار منهم نجيب محفوظ فى رائعته أولاد حارتنا.
يقول نجيب محفوظ:
"لم يبق من الشمس إلا الشفق، وانقطعت السابلة، وانفرد بالخلاء قدرى وهمام والأغنام، مر النهار فلم يتبادلا طواله ما تفتضيه ضرورة الشراكة فى العمل، وغاب قدرى شطرا كبيرا من النهار فخمن همام أنه يتشمم أخبار هند، ولبث وحده فى ظل الصخرة على كثب من الأغنام. وفجأة، وفى شيء من التحدي، سأل قدرى همام:
خبرنى عما انتويت من ذهابك إلى جدك أوعدوك؟
قال همام بامتعاض:
هذا شأن يخصنى وحدى.
فاحتدم الغيظ فى قلب قدرى، ولاحت بوادره فى وجهه كطلائع الظلام فوق المقطم وتساءل:
لماذا بقيت؟ ومتى تذهب؟ متى تجد الشجاعة لإعلان نيتك؟
بل بقيت لأتحمل نصيبى من العناء الذى خلقته فضائحك.
فضحك قدرى ضحكة كاسرة وقال:
هكذا تقول لتدارى حسدك!
فهز همام رأسه كالمتعجب وقال:
إنك تستحق الرثاء لا الحسد.
فاقترب قدرى منه وأطرافه ترتجف من الحنق وقال بصوت مخنوق بالغضب:
ما أبغضك حين تتظاهر بالحكمة.
فحدجه همام بنظرة احتكار دون أن ينبس، فعاد الآخر يقول:
يجب أن تخجل الحياة لانتسابك إليها.
فلم يغض همام من بصره تحت النظرات المتقدة التى تنصب عليه وقال بثبات:
اعلم أننى لا أخافك.
هل وعدك البلطجى الأكبر بالخيانة؟
إن الغضب يجعل منك شيئا حقيرا تافه النفس.
وفجأة لطمه قدرى على وجهه. لم تدهمه اللطمة فردها بأشد منها وهو يقول:
لا تتماد فى جنونك.
وانحنى قدرى بسرعة فالتقط حجرا وقذف به أخاه بكل ما أوتى من قوة. وبادر همام ليتفادى من الحجر ولكنه أصاب جبهته. بدت عنه آهة وجمد فى موقعه والغضب يشتعل فى عينيه. وإذا بالغضب يختفى منهما فجأة كأنه شعلة ردمت بتراب كثيف. وإذا فراغ قاتم يحل فيهما فبدت العينان وكأنهما تنظران إلى الداخل. وترنح ثم انكفأ على وجهه.
وتبدل قدرى حالا بعد حال، فزايله الغضب، وتركه حديدا باردا بعد انصهار، وركبه الخوف. ترقب بلهفة أن ينهض المنكفئ وأن يتحرك ولكنه لم يرحم لهفته. وانحنى فوقه، ومد يده يهزه فى رفق ولكنه لم يستجب. وسواه على ظهره ليخلص أنفه وفاه من الرمال فاستلقى الآخر محملق العينين ولا حراك فيه، وركع قدرى إلى جانبه، وراح يهزه، ويدلك صدره ويديه، وينظر بفزع إلى الدم المتدفق بغزارة من جرحه. وناداه برجاء فلم يجب. وبدا صمته كثيفا عميقا كأنه جزء لا يتجزأ من كيانه. كجموده الذى بدا غريبا عن الحى والجماد معا. لا إحساس ولا انفعال ولا اهتمام بشىء. كأنما ألقى إلى الأرض من مكان مجهول فلم يمت إليها بسبب.
عرف قدرى الموت بفطرته فراح يشد شعر رأسه فى يأس. ونظر فيما حوله خائفا، ولكن لم يكن هناك من حى إلا الأغنام والحشرات. وجميعا انصرفت عنه دون اكتراث.
سينتشر الليل ويستحكم الظلام. وقام بعزم، فجاء بعصاه واتجه إلى موضع بين الصخرة الكبيرة وبين الجبل، وراح يحفر الأرض ويرفع التراب بيديه، ويواصل العمل بعناد، وهو يتصبب عرقا وترتجف منه الأوصال. وهرع على أسفل ساقيه وجره حتى أودعه الحفرة، وألقى نظرة وهو يتنهد، وتردد مليا، ثم أهال عليه التراب. ووقف يجفف عرق وجهه بكم جلبابه. وكلما رأى بقعة دم فى الرمال عطاها بالتراب. وارتمى على الأرض من شدة الإعياء. وشعر بقوته تتخلى عنه، وبرغبة فى البكاء، ولكن الدموع استعصت عليه وقال "غلبنى الموت".