عينت السلطة العسكرية للاحتلال البريطانى لمصر، 26 ضابطا بريطانيا بين الإسكندرية وأسوان، لتنفيذ الأمر السلطانى يوم 20 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1917، بتشجيع المصريين على التطوع لخدمة الجيش البريطانى أثناء الحرب العالمية الأولى (28 يوليو 1914 إلى 11 نوفمبر 1918)، ما أدى إلى تعرض العمال والفلاحين لواحد من أكثر الفصول وحشية وقسوة فى تاريخ مصر، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 1919»، والدكتورة لطيفة سالم فى كتابها»مصر فى الحرب العالمية الأولى».
ونصّ القرار وفقا لـ«سالم»: «بما أن السلطة العسكرية البريطانية أبلغت الحكومة المصرية، بأنها تلاقى صعوبات فى إيجاد الرجال اللازمين لفرقة العمال بطريق التطوع الاختيارى، ورغم أن الحكومة البريطانية قد أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن مصر، إلا أن البلاد لا تستطيع أن تقف وقفة المتفرج إزاء هذا الدفاع، بل من واجبها الأدبى أن تعاون السلطات العسكرية المشار إليها جهد الاستطاعة، وبما أنه يتعين فى هذه الحالة العمل على إيجاد وسيلة للتشجيع على التطوع الاختيارى، قرر المجلس أن يقترح على السلطة العسكرية زيادة الأجر اليومى، وتتحمل هذه الزيادة الحكومة المصرية، ويعفى كل رجل يتطوع فى هذه الفرقة لمدة سنة على الأقل من الخدمة العسكرية، وإعفاء كل رجل يتطوع فى هذه الفرقة من أجور الخفر طول مدة تطوعه».
توضح «سالم» أنه: «تم اللجوء إلى هذه الوسيلة بعد رفض الحكومة المصرية اقتراح الإنجليز بالتجنيد الإجبارى، لكنها وثقت من أن موظفى الإدارة فى الأقاليم وخاصة العمد يمكنهم بوسائل الضغط الحصول على ما يلزم من الرجال، وهكذا ظل التجنيد اختياريا فى الظاهر، وإجباريا بالسخرة فى الباطن».
تذكر «سالم»، أنه: «فور صدور أمر تشجيع التطوع، طلبت الحكومة من المديرين، فى منشورات دورية، مضاعفة جهودهم لتشجيع التجنيد، وأبلغ المديرون مأمورى المراكز هذه الأوامر، وأبلغها هؤلاء بدورهم للعمد مع إنذارهم بأشد العقوبات إذا قصروا، وأنه إذا لم يتطوع للجيش البريطانى عدد كاف من القرية أو الناحية، فإن اللائمة تقع على المسؤولين أنفسهم، وبهذه الطريقة أصبح من اللازم على كل مدير أن يقدم شهريا من مديريته عددا معينا من الرجال لسد طلبات السلطة».
تؤكد سالم: «قاسى المصريون سواء عن طريق جمعهم أو من السخرة التى فرضت عليهم وأرجعتهم إلى عهد إسماعيل»، تضيف: «بدأ تنفيذ السياسة التعسفية الجديدة لحشد العمال والفلاحين قسرا، فعين ستة وعشرون ضابطا بريطانيا بين الإسكندرية وأسوان لأجل هذه العملية، وكل ضابط يعاون مأمور المركز فى جمع الأنفار، وتبدأ العملية باستدعاء عمدة القرية وإبلاغه بالعدد المطلوب من قريته، وعندما يأوى الفلاحون إلى دورهم يبدأ الخفراء ورجال البوليس بالهجوم عليهم لجمع العدد المفروض على القرية، وبين صراخ الأطفال وولولة النساء يحشد الرجال الذين وقع عليهم الاختيار فى مضيفة العمدة تحت حراسة قوة من بوليس المركز، وفى الصباح يساق الجمع موثقين بالحبال إلى المركز، حيث يتسلمهم الضابط البريطانى ليشحنهم بالسكة الحديد إلى كامب التوزيع بالإسماعيلية، ولا يجرى خلال هذه العملية أى تسجيل، ويكتفى الضابط البريطانى بإعداد قائمة بأسماء الرجال، وأحيانا يقسمهم إلى مجموعات (50 رجلا)، يختار لكل مجموعة رئيسا من بينهم يتولى تنفيذ ما يصدر إليه من أوامر خلال الرحلة الحزينة إلى الحرب.
تنقل «سالم» شهادة معاصر للحدث، وهو الكاتب والمفكر سلامة موسى، يكشف: «رحلت إلى الريف- قرية بالقرب من الزقازيق- ورأيت كيف كان يسلط الإنجليز علينا الموظفين المصريين من مأمورين ومديرين وحكمداريين وشرطة، لخطف محصولاتنا، وكانت الجمال والحمير بل الرجال يخطفون أيضا كما لو كانوا فى قرية زنجية على خط الاستواء قد كسبها النخاسون لخطف سكانها وبيعهم فى سوق الرقيق، كان المنظر تئن منه النفس كما يفتت القلب، فكان الرجل يربط بالحبل الغليظ من وسطه وخلفه أمثاله، ويسيرون على هذه الحال صفا، إلى أن يبلغوا المركز، فيحبسون فى غرفة المتهمين ثم يرحلون إلى فلسطين، وكنت أنجح أحيانا بالرشوة فى استخلاص بعض هؤلاء المساكين، وذات مرة وأنا بالمنزل سمعت صراخا ودخلت على نسوة فى فزع ونحيب، وعرفت أن ثلاثة ممن يزرعون أرضنا ألقى القبض عليهم وهم يحرثون فى الحقل، فخرجت ووجدتهم مربوطين بالحبال الغليظة بحراسة أحد رجال الشرطة، أما سائر الشرطة فقد تركوهم كى يغزوا قرية أخرى، واستطعت بمساومات مع الشرطة أن أحصل على الإفراج عنهم، ولكنى لم أنجح فى كل مرة، ففى ذات يوم قصدت إلى مأمور الزقازيق أطلب منه إطلاق اثنين من الفلاحين فتأملنى ثم قال: «أنا عايز أرحلك إنت لفلسطين، فتركته، إذ لم تكن الظروف وقتئذ تأذن بالتحدى»، وتواصلت المأساة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة