اليمين الدينى والأصوليون، فى كل الأديان، يأخذون موقفا متطرفا، يرفضون الآخر ويقتاتون على الكراهية، لذا نجدهم دائما يسعون لتغذية خطاب الكراهية وتشعبه، وجعله مهيمنا ومنتشرا، ويقتلون أى فرصة لتهدئة الأمور أو لإيجاد منفذ للعقل. هذا الكلام ينطبق بالتمام والكمال على الأزمة الأخيرة التى نعيشها الآن، بين فرنسا والعالم الإسلامي، فهذه الأزمة تحركها العاطفة المتعطشة لإثبات الذات، هناك شيء ما يختبئ تحت الرماد السياسى الذى نراه أمامنا، هناك منتفعون بعيدا عن "شرف القضية".
لنا أن نتأمل أحد المشعلين للأمور وهى الدولة التركية، التى تتبنى فكرة الهجوم راغبة بقوة فى تزعم الرأى الإسلامى الحاد تجاه القضية، سوف نجد مساحة كبيرة بين الكلام والتطبيق، فالدولة التركية وحسبما تقدم نفسها وينص دستورها هى دولة علمانية تفصل بين "الدين والدولة" لكن نظام أردوغان بخلفيته الدينية يمارس ما يحقق له مصلحته "الدنيوية" هو يعشق دور الزعيم، ويبحث طوال الوقت عما يقدمه فى هذه الصورة.
حزب العدالة والتنمية (علمانى أم دينى؟)
فاز حزب العدالة والتنمية فى 2001 بأغلبية فى الانتخابات التشريعية، ووجد نفسه أمام معضلة كبرى، فى البداية، أكد الحزب على علمانية الدولة، ووقوفها على حياد كامل من جميع الأديان، فتقبله الشارع التركى، لكن بعد عام 2011 بدأ وجه آخر يظهر للحزب وزعيمه أردوغان.
ومما يذكر فى هذا الشأن ما قاله رجب طيب أردوغان، الذى كان يشغل منصب رئيس وزراء تركيا، إنه لا خلاف بين كونه مسلمًا وكونه رئيسًا لحكومة دولة علمانية.
فى تركيا والمطلع على نمط الحياة الاجتماعية سيجد أن مصطفى كمال أتاتورك لا يزال "حيا" بأفكاره العلمانية داخل المجتمع وبصورة مبالع فيها، من ناحية أخرى لا يزال أردوغان يحافظ على الحروف اللاتينية التى اعتمدها أتاتورك بدلا من الحروف العربية ولم يعرف عنه ولم يسبق أن اشار الى العودة لاعتماد حروف القرآن.
كل ذلك لا يتفق مع الظاهر الذى يحاول أردوغان أن يظهره لنا دائما، ويبدو أن هناك تناقضا كبيرا يعيشه أردوغان وحده، يتمثل فى رغبته الملحة فى الظهور بدور الزعيم، وهو يعرف أن عالمنا الشرقى سريع التأثر وعاطفى التفكير، وأن الشعور الدينى طاغى، على جميع فئات المجتمع، المتدين منها وغير المتدين.
وعلى المستوى السياسى ارتكب أردوغان عددا من الأخطاء واكتسب عداوات دفعت إلى تراجعه سياسيا بصورة كبيرة، ولعل خسارة حزبه لرئاسة مدينة أسطنبول لصالح "أكرم إمام أغلو" أكبر دليل على هذا التراجع، كما أن انسحاب عدد كبير من رجال حزبه الأساسيين دليل كبير على هذه التراجع، من هنا لم يكن أمام "أردوغان" سوى عدد محدود من التصرفات منها:
السماح لكل الجماعات المتطرفة وأصحاب الأفكار المتشددة من اتخاذ تركيا مقرا لها، تبث منه سمومها تجاه أوطانها، متخذا منهم درعا واهيا لحماية شرعيته كزعيم مسلم. كذلك اصطياد أى تصرف يمس الإسلام أو رمز إسلامى كى يرفع صوته عاليا بالصراخ ساعيا لتقديم نفسه فى صورة "المخلص" مع أن هدفه الأساسى هو تقديم نفسه للغرب منتظرا اللحظة المناسبة للمساومة.
المثقفون الأتراك كانوا فطنين لتناقض أردوغان، ويعرفون أنه يستغل العلمانية فى الداخل حتى لا يصطدم مع مجتمعه، ويستغل الإسلام فى الخارج بحثا عن مكانة شخصية.