وحده المتحرش به هو الذى يشعر بمدى صعوبة أن تكون رجلا يطمع فيه الرجال.. والأصعب من ذلك أن تكون طفلا، ذلك الأمر الذى يفتح له العديد من التساؤلات لماذا أنا؟، هل أنا السبب؟ هل تصرفت بأى شكل خاطئ يجعلنى مطمع للرجال؟ هل جسدى السبب؟ تساؤلات عديدة تلك التى تدور بذهن أى طفل تعرض للتحرش، ما يجعله يكره ذاته وجسده وحياته بالكامل.
فيلم البانو (1)
فيلم البانو (2)
فيلم البانو (3)
فيلم البانو (4)
المخرجة التونسية أنيسة داود فى فيلمها القصير "البانو" المشارك بمسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان الجونة، قدمت نموذجا هو الأصعب والأكثر قهرا للمتحرش به، فهو لم يقع ضحية شقى فى أحد الشوارع أو استدرجه أحدا لمكان مهجور مثلا وإنما نموذج لطفل وقع ضحية عمه بمجرد أن خضع لعملية ختان الذكور المعروفة فى مجتمعاتنا العربية.
قدمت أنيسة هذا النموذج الذى صار رجلا لكنه ظل حبيسا لصورة من الماضى، صورة وقفت عندها حياته وربما تغيرت لباقى عمره، طفل لا يحمل داخله سوى البراءة يجد نفسه بين ساقى عمه الذى يخبره بأنه الأقرب لقلبه، وأنه لا يجب أن يخبر أحدا ليتحمل ذلك الطفل ما لا يتحمله بشر، لتنهشه مشاعر الخزى والعار والقهر وفقدان الثقة والأمان، ليصبح مخلوقا مشوها من الداخل لا يشعر به أحد سوى نفسه.
بلورت المخرجة أنيسة داود بذكاء شديد ذلك الصراع الذى يعيش فيه بطل الفيلم الطفل الذى نضج وبداخله تشوه فكرى وجنسى، وتساؤلات أكبر بكثير من سنه، لكنه يكمل حياته محاولا استكمالها وكأن شيئا لم يكن، ولكن لا يستطيع أحد أن يغفل ماضيه، خاصة إن كان بكل هذا الكم من القسوة والوجع والآلم.
رصدت أنيسة ذلك التشوه الناتج عن اغتصاب ذلك الطفل وتأثيره عندما أصبح أب، فهو ليلا نهارا يعيش فى ذلك الصراع ما بين مشاعر الأبوة تجاة طفله الذى يجده نسخة مصغرة منه فيحاول حمايته مما مر هو به، وبين مشاعره تجاه طفله التى انحرفت فأصبح يخاف على طفله من نفسه ويخشى أن يتحول هو إلى جانى ويتحرش بابنه كنتيجة لذلك التشوه الذى خلفه العم داخل صدره فى طفولته التى أصبحت كابوسا قلما ما يفيق منه، وإذا فاق يجد آلاف العلامات التى تذكره بماض ليس له قدرة على تغييره.
الفيلم فى حد ذاته يعتبر كسرا لواحد من التابوهات التى يغفلها كثير من صناع السينما، وإذا تم تناولها ربما يخرج العمل بشكل خادش أو بمشاهد جنسية تدمى القلوب، لكن أنيسة داود كان لديها من الحكمة أن تقدم العمل بشكل يصل إلى مشاعر الجميع وربما يبكيهم ويستفذ مشاعرهم ولكن دون مشهد واحد يخدش الحياء أو حتى تستفزه العين، على العكس قدمت أنيسة صورة غاية فى الروعة ضفرت فيها كل مقاومات الصورة الجيدة من إضاءة لإكسسوارات لملابس لديكورات لموسيقى تصويرية، لتقدم فى النهاية عمل يحترم يناقش قضايا فى الوطن العربى قلما ما نراها على الشاشة بحكمة وحنكة مقدمه رسالة غاية فى الأهمية بأداء راقى للممثل محمد الداهش الذى قدم شخصية "عماد"، وتأثيرات ماضيه عليه فالجميع يعلم أن تعيش كرجل مغتصب أو متحرش به فى وطنا العربى تلك بكل تأكيد حياة ليست كأى حياة فالأغلب يتجه للانتحار أو التحول لمتحرش جديد أو يجد لذته فى أحضان الرجال لكن الأصعب وهو ما اختارته أنيسة فى فيلمها هو أن تظل تقاوم وتقام تلك التأثيرات حتى آخر نفس.