العقل المصرى كان حاضرا فى أزمة فرنسا الأخيرة، عقب مقتل أو ذبح المدرس الفرنسى صامويل باتى على أيدى متطرف إسلامى.
القاهرة لم تنجرف إلى حملة الهجوم والخلاف والعداء مع باريس، التى قادتها تركيا أردوغان، رغم التحفظ والرفض العاقل للإساءة إلى الرسول الكريم بالرسوم الكاريكاتورية، ولم تلق دعوات بعض الأصوات المتأثرة وجدانيا بالرسومات بمقاطعة البضائع الفرنسية صدى، واقتصرت على الدفاع بالرأى عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
القاهرة التى اكتوت بنار الإرهاب من جماعات العنف والتطرف، وعلى رأسها جماعة الإخوان، تعى جيدا ما تتعرض له فرسا، وما تعرضت له خلال السنوات القلية الماضية من أعمال إرهابية، آخرها ما حدث فى مدينة نيس، ودائما ما تعلن مصر تضامنها ووقوفها مع فرنسا ضد الإرهاب والتطرف.. باريس لديها أزمة اجتماعية كبيرة منذ سنوات مع حوالى 6 ملايين مسلم داخل المجتمع الفرنسي، ويتغلغل فيها الفكر المتطرف الذى يهدد القيم العلمانية للجمهورية الفرنسية وهى أكبر دولة غربية يعيش فيها هذا العدد من المسلمين الذى ينتمى غالبيتهم الى المغرب العربى وتركيا وتحاول تركيا استغلال عدد كبير منهم كورقة ضغط على فرنسا فى الآونة الاخيرة لتغيير مواقفها تجاه انقرة.
العقل المصرى فوت الفرصة على أردوغان الذى توهم فى نفسه انه "خليفة المسلمين وحامى حمى الدين" لقيادة حملة شعواء ضد فرنسا تحت ستار الدين الإسلامى ومعه جماعات العنف والتطرف والارهاب الذى يرعاها ويمولها وحاول استمالة ملايين المسلمين فى الدول العربية والاسلامية ومداعبة مشاعرهم بشعارات دينية لحشد تلك الشعوب ضد فرنسا ودعمه فى صراعه مع باريس والتوتر الذى يسود بين البلدين منذ سنوات على خلفية قضايا عديدة منها الموقف فى ليبيا وسوريا لبنان واليونان.
خديعة أردوغان انكشفت سريعا ولم يفلح فى إشعال فتيل أزمة ووقيعة بين مصر وفرنسا، بل بين غالبية الدول العربية وباريس. فسياسات أردوغان التوسعية فى المنطقة ودعمه ورعايته للإرهاب والتدخل فى الشئون الداخلية لسوريا والعراق، واحتلال جزء من أراضيهما، وتسفير الإرهابيين إلى ليبيا والتوتر مع اليونان فى مياه البحر المتوسط، شكلت حاجزا نفسيا وسياسيا فى التضامن معه فى حملة مقاطعة البضائع الفرنسية والضغط على فرنسا، ولم يقف معه سوى جماعات العنف والإرهاب فى الصراع ضد فرنسا.
الشعارات الدينية لم تنجح فى خلط الأوراق فى أسباب الخلافات بين تركيا أردوغان وفرنسا إلى الحد الذى تجاوز فيه الرئيس التركى ووزير خارجيته كافة الأعراف الدبلوماسية فى مخاطبة رؤساء الدول. فأردوغان طالب بـ"فحص صحته العقلية"- فى إشارة لماكرون، وهو ما اعتبره مكتب الرئيس الفرنسى بالغير مقبولة وبأنها إهانة.
مولود جاويش وزير الخارجية التركى وصف ماكرون قبلها فى سبتمبر الماضى بأنه شخص "جن جنونه" وهو تصريح عكس عمق الخلاف بين البلدين في خضم أزمة مشتعلة في شرق البحر المتوسط.
أسباب الخلاف معروفة وليس لها علاقة بالغضب التركى المفتعل للاساءة للرسول الكريم، فأردوغان يرى فى فرنسا مثلما مصر "شوكة" فى حلق أطماعه التوسعية وسياساته العدوانية فى المنطقة فى عدة ملفات واهمها الملف الليبى، فقد مارست فرنسا كل طاقتها الذاتية لوقف لإطلاق النار في ليبيا، وهو ما نجحت فيه باريس، وظهر رئيس حكومة الوفاق فائز السراج الحليف الاستراتيجي لتركيا وكأنه وافق على المساعي الأوربية من دون موافقة كاملة من تركيا.
وفى الملف اليونانى أظهرت فرنسا أعلى درجات التضامن مع اليونان في التوتر الذي نشب بينها وبين تركيا، في ملف حقوق التنقيب عن الغاز بمنطقة شرق المتوسط، حتى إنها ضغطت لإحداث موقف أوروبي يهدد تركيا بفرض العقوبات، ما لم تتجاوب مع التحذيرات اليونانية الأوربية.
كما لعبت فرنسا دورا محوريا في إعادة ضبط الحياة السياسية والأمنية في لبنان، ورعت مشروعا توافقيا بين القوى السياسية، وبذلك ظهرت باريس وكأنها قطعت الطريق أمام التوجهات التركية لمد الفاعلية والنفوذ إلى البلد الجريح مستفيدة من مظلومية بعض طوائفه، وهو أمر كان نائب الرئيس التركي فؤاد أوكتاي قد أعلنه خلال زيارته لبيروت عقب انفجار مرفأ المدينة في أغسطس الماضي.
لكن الغضب الأردوغانى وصل الى ذروته بعد التصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي أثناء زيارته الأخيرة لبغداد، ، التي أعلن فيها عقب اجتماع مع رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان بارزاني عن رفض فرنسا التدخلات الخارجية في الشئون والأراضي العراقية، معتبرا أن العراق دولة ذات سيادة، وهي تصريحات التى استهدفت العمليات العسكرية التركية في إقليم كردستان العراق. علاوة على الموقف الفرنسى الرافض للتمدد التركى فى سوريا واقتراح فرنسا بضرورة بقاء القوات الفرنسية والأميركية في منطقة شرق الفرات إلى أن يتحقق التوافق السياسي السوري النهائي، وهو أمر رأته تركيا مساسا بأمنها القومي.
أردوغان أيضا يرى أن فرنسا تحاول تشكيل أكبر عدد من الحلفاء الإقليميين لمناهضة تركيا، فأي توافق وتنسيق سياسي بين إسرائيل ومصر والإدارة اليونانية لقبرص، إلى جانب اليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، كان سيكون مستحيلا، لولا التحركات الفرنسية.
وحتى لا ننجر إلى أزمة قد نخسر فيها، علينا أن نعي جيدا أن القصة ليست فى الإساءة للإسلام والرسول، كما يزعم أردوغان، فهو واحد من الذين أساءوا للإسلام ومبادئه السمحة، بدعمه ورعايته واستضافته للإرهابيين، وتصديرهم للغرب والشرق، وإنما هو صراع سياسي بتوظيف ديني.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة