غير أن إدوارد سعيد ليس مفكراً وناقداً وسردياً رائعاً خصوصاً فى كتبه الشهيرة "خارج المكان"، "الاستشراق" فقط بل كانت تخطت إسهاماته إلى حدود عالم الموسيقى، بعدما وضع عدة كتب فى علم الموسيقى.
وتمر اليوم الذكرى الـ85 على ميلاد المفكر الفلسطينى الكبير إدوارد سعيد، إذ ولد فى مدينة القدس فى 1 نوفمبر 1935، وغاب عن عالمنا فى 25 سبتمبر عام 2003، وذلك بعد نحو عشرة أعوام من الصراع مع مرض اللوكيميا.
وإدوارد منظر أدبى فلسطينى-أمريكى، يعد أحد أهم المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب فى القرن العشرين سواءً من حيث عمق تأثيره أو من حيث تنوع نشاطاته، بل ثمة من يعتبره واحداً من أهم عشرة مفكرين تأثيراً فى القرن العشرين. كان أستاذاً جامعياً للنقد الأدبى والأدب المقارن فى جامعة كولومبيا فى نيويورك ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الاستعمارية (ما بعد الكولونيالية).
وبعيدا عن إسهاماته الأكاديمية فى الفكر والنقد الأدبى، يعد إدوارد سعيد ناقدا موسيقيا، وكان أيضاً عازف بيانو، ووضع فى الموسيقى ثلاثة كتب: «متتاليات موسيقية» فى عام 1991، و«المتشابهات والمتناقضات: استكشافات فى الموسيقى والمجتمع» فى عام 2002، ثم كتابه الثالث والأخير فى حياته «عن الأسلوب المتأخر.. موسيقى وأدب عكس التيار» وصدر فى عام 2015 بعد رحيله، ونقله إلى العربية فواز طرابلسى - وفى الكتاب هذا مناقشة واسعة يضعها إدوارد سعيد لأفكار الفيلسوف الألمانى «تيودور ادورنو = 1903- 1969» فى الموسيقى، وتظهر هنا ثقافة صاحب «الاستشراق» الموسيقية، وفهمه العميق للأعمال السمفونية وأوركسترات العالم الكبرى، والأعمال الأوبرالية العالمية أيضاً.
يخبرنا إدوارد سعيد عما سماه موسيقى الموسيقى وهو يتحدث عن شتراوس.. «كأن شتراوس يستخدم الموسيقى؛ بل، قل موسيقى الموسيقى، فى إطار القرن الثامن عشر..»، الموسيقى، أيضاً، منفى اللغة كما يقول «مايكل. ب. ستاينبرغ»، فى معرض تقديمه لإدوارد سعيد فى «عن الأسلوب المتأخر»، وتقول زوجته السيدة مريم قرطاس سعيد: إنه كان يريد أن يتخصص فى الموسيقى.
متتاليات موسيقية
عبر سعيد عن اهتماماته الموسيقية فى كتاب «متتاليات موسيقية» سنة 1991 محاولا ربط الموسيقى ببعديها الثقافى والسياسي، فكان قادرا على ربط الموسيقى ببعدها الثقافى والسياسي"، وهنا يناقش إدوارد سعيد فى كتابه بادئا ذى بدء بدور المسيقى الكلاسيكية فى الغرب المعاصر، وعليه، فإن الموسيقى بشكل حرفى تملأ تماما فضاء اجتماعيا، وهى تفعل ذلك عن طريق إحكام أفكار السلطة والتسلسل الهرمى الاجتماعى المرتبط مباشرة مع مؤسسة مسيطرة يتخيل أنها مترأسة وسائدة.
ويدافع إدوارد عن عن الجدارة الجمالية لدى موسيقى فاجنر برغم ما يشوبها من إرث ثقافى وسياسى ويعتبرها جمالية غر قابلة للإتهام. فهى سم ودواء فى آن واحد، على الرغم من فظاظتها إلا أنه ليس بالإمكان أن نختزلها إلى مستوى واقعيتها الفظة فحسب.
نظائر ومفارقات: استكشافات فى الموسيقى والمجتمع
صدر عام 2002، وهو عبارة عن حوار ساحر بين اثنين من أبرز شخصيات الثقافة المعاصرة، دانيال بارنبويم، مدير الشؤون الموسيقة لاوركسترا شيكاغو السيمونية ودار الأوبرا الألمانية، وإدوارد سعيد الناقد الأدبى البارز والعالم الأخصائى والقيادى حول الشرق الأوسط، نشأ من حوارات قاعة كارنغى الشهيرة، إنه نقاش فريد من نوعه وملتهب حول السياسة والثقافة، ويتطرق إلى مواضيع مختلفة جداً: أهمية الإحساس بالمكان، الفرق بين كتابة النثر والموسيقى، بتهوفن مؤلفاً أعظم للسوناتا، صعوبة عزف فاغنر، الصوت فى (مسرحية مدينة) بايرويت، الكتاب بالزاك وديكنز وأدورنو، أهمية الأساتذة الكبار، وقدرة الثقافة على تجاوز جميع الفوارق القومية والسياسية.
ورغم أن لكل من بارنبويم وسعيد وجهة نظره المختلفة جداً، إلا أنهما يعملان كمادة حفازة للآخر، أصالة أفكارهما تجعل هذا الكتاب سهل المنال ويفرض نفسه بقوة على كل من يهتم بثقافة القرن الحادى والعشرين.
عن الأسلوب المتأخر: موسيقى وادب عكس التيار
صدر الكتاب عام 2006، وترجمه فواز طرابلسى وصدرت ترجمته عن دار الآداب، ويتناول منتجين ثقافيين فى المرحلة الأخيرة من حياتهم، تحدوا مداهمة الموت بالسير «عكس التيار» فى المضمون والشكل، فى الأدب، جان جنيه وكاڤافى ولامپيدوزا وطوماس مان، وفى التأليف الموسيقي، باخ وموزار وبيتهوڤن وشتراوس والعازف المعجز غلين غولد، بالإضافة إلى الأوبرا والمسرح الإغريقى وأفلام ڤيسكونتي، ودوما فى استلهام خلاق لأعمال آدورنو وغرامشى النقدية.
«عن الأسلوب المتأخر» هو أيضا عمل إدوارد «المتأخر» يسير فيه هو نفسه «عكس التيار» من حيث جذرية النظرة والنبرة والمفاهيم، ويسكب النقد بأسلوب بلغ أرقى درجات الصنعة والأناقة، من هنا فإن تصنيع «عن الأسلوب المتأخر» باللغة العربية يتعدى التعريف برائعة فى النقد الأدبى والموسيقى إلى نشر وصية إدوارد سعيد الفكرية والأدبية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة