وكتب اللواء محمد إبراهيم في مقالة له اليوم الثلاثاء، على موقع المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية: "تشير كافة الدلائل إلى أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة برئاسة الرئيس "جو بايدن" سوف تأخذ طريقها إلى البيت الأبيض لتبدأ فترة حكم جديدة خلفًا للإدارة الجمهورية رغم محاولات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الذي ستنتهي ولايته رسميًا خلال أسابيع معدودة منع وصول الرئيس المنتخب إلى الحكم، وهو أمر يبدو غريبًا -إلى حدٍ كبير- في مسألة التداول السلمي للسلطة في الولايات المتحدة، ولكن علينا توقع مثل هذه المشكلات وأكثر منها في عصر الكورونا التي أصبحت انعكاساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتحكم في مقدرات مستقبل بعض الدول وأنظمة الحكم فيها."


وأضاف: "ما زلت أتلمس بوضوح أن هناك مخاوف تشوب العديد من دول الشرق الأوسط تجاه السياسة المتوقعة لإدارة الرئيس "بايدن" تجاه المنطقة، وكيف سيتم التعامل الناجح معها، خاصة وأن هذه الدول شهدت تطورًا إيجابيًّا ملحوظًا في علاقاتها مع الإدارة الجمهورية والرئيس "دونالد ترامب"، إلا أننا في عالم السياسة المتغيرة التي تحكمها المصالح فقط يجب توقع أية تطورات يمكن أن تحدث، ومن ثم فمن الضروري أن يكون هناك استعداد كامل للتعامل مع هذه التطورات، وأعتقد أن هذا هو أهم محاور النجاح في علاقات الدول الكبيرة التي تكون قادرة على مواجهة أية متغيرات من هذا القبيل".


وتابع :"والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف ستتعامل إدارة الرئيس "بايدن" مع القضايا المختلفة والهامة في منطقة الشرق الأوسط، وكذا مع الأحداث التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على وضعية هذه المنطقة؟. وفي هذا المجال من الضروري أن نركز على المحددات الخمسة الرئيسية التالية:

المحدد الأول: أن منطقة الشرق الأوسط بكل ما بها وما لها وما عليها ستظل تمثل منطقة استراتيجية تؤثر على مصالح الولايات المتحدة، وبالتالي ستحرص كل الإدارات الأمريكية على أن تضع هذه المنطقة في إطار أولوياتها، أو على الأقل في نطاق اهتماماتها.


المحدد الثاني: أنه مهما كانت طبيعة القضايا المثارة حاليًا على مستوى المنطقة كلها فلا مفر أمام أية إدارة أمريكية إلا أن تنخرط فيها بشكل أو بآخر رغم أنه من المؤكد سوف تكون هناك اختلافات تكتيكية في أسلوب معالجة كل إدارة عن الأخرى، وهذا أمر طبيعي ولا بد من توقعه.

المحدد الثالث: أن مسألة وجود تغييرات حادة أو دراماتيكية في السياسة الأمريكية في ظل إدارة "بايدن" أمر غير مطروح بالشكل الذي يروج له البعض، حيث إن المبادئ العامة التي تحكم السياسة الأمريكية على مستوى العالم ترتبط بأسس جوهرية تأخذ في اعتبارها تحقيق المصلحة الأمريكية أولًا، والتي لا يمكن تغييرها بسهولة بمجرد انتخاب إدارة جديدة.

المحدد الرابع: أن الرئيس المنتخب "جو بايدن" لم يتول هذا المنصب من فراغ، أو أنه شخصية جديدة على السياسة الدولية، أو حتى على منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي يحتاج إلى قراءة ملفات قضايا المنطقة، حيث يكفى هنا أن نقول إن “بايدن” كان رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، والأهم أنه كان نائبًا للرئيس “باراك أوباما” لمدة ثماني سنوات بكل الصلاحيات التي يمتلكها، ومساهمته في اتخاذ القرارات الاستراتيجية, ولا شك أن “بايدن” الذي بلغ منذ أيام عامه الثامن والسبعين يمتلك من الخبرات ما يؤهله للتعامل مع المشكلات الإقليمية والدولية بحرفية كبيرة.

المحدد الخامس: أن مسألة تركيز الإدارات الديمقراطية على موضوع حقوق الإنسان حتى وإن كان أحد أولويات إدارة “بايدن” –وهو أمر معروف للجميع تمامًا- إلا أن هناك عاملين رئيسيين يجب أخذهما في الاعتبار: العامل الأول أن هناك متغيرات دولية هامة حدثت خلال العقد الأخير، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن هذه المتغيرات سوف تدخل في حسابات الإدارة الجديدة التي ستبدأ ولايتها في يناير عام 2021. والعامل الثاني أن موضوع حقوق الإنسان بالرغم من أنه سوف يكون له تأثير –ولو جزئيًا- في علاقات الإدارة الديمقراطية مع بعض الدول، إلا أنه لن يؤدي إلى إحداث تغيير دراماتيكي في جوهر السياسة الأمريكية التي ستركز بشكل أكبر على تحقيق مصالحها".

وأضاف :"ومن هنا سوف أنتقل إلى تحديد أهم القضايا المثارة في المنطقة التي ستجد الإدارة الأمريكية الجديدة نفسها مضطرة للتعامل معها، خاصة وأنها كلها قضايا هامة انخرطت فيها إدارة الرئيس “ترامب” على مستويات مختلفة، نظرًا لارتباطها بالمصالح الأمريكية في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية على المستويين الإقليمي والدولي، وارتباط ذلك سواء بالعلاقات مع أوروبا التي ستحرص الإدارة الجديدة على إعادتها إلى وضعها الطبيعي، أو بالحد من الآثار السلبية لتصاعد التنافس الأمريكي المحموم مع كل من روسيا والصين.

أولًا: العلاقات مع مصر
تعد العلاقات المصرية الأمريكية علاقات استراتيجية يحرص الجانبان على استمرارها ودعمها، خاصة وأنها تشمل العديد من المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، ويستوي في ذلك وجود إدارة ديمقراطية أو جمهورية على سدة الحكم في البيت الأبيض، وقد شهدت العلاقات المصرية الأمريكية قدرًا كبيرًا من الاستقرار والارتياح خلال فترة الإدارة الجمهورية، لا سيما مع وجود تميز واضح في العلاقة بين الرئيس “عبدالفتاح السيسي” والرئيس “ترامب” وهو ما أضفى طابعًا خاصًا على هذه العلاقة ساهم في تحقيق أقصى قدر من الاستفادة لصالح الدولتين.

نجحت مصر بشكل كبير في التعامل مع كافة الإدارات الأمريكية أيًّا كانت طبيعتها، وإعطاء زخم كبير للحوار الاستراتيجي القائم بين الدولتين، كما نجحت مصر في احتواء أية خلافات شهدتها هذه العلاقات على فترات زمنية متفاوتة, ومن المؤكد أن القيادة السياسية المصرية الحكيمة ستحرص خلال تعاملها مع إدارة الرئيس “بايدن” على الحفاظ على هذه العلاقة وتطويرها انطلاقًا من أن المصالح الاستراتيجية للجانبين هي التي ستحكم بالأساس هذه العلاقة، وهي القادرة في الوقت نفسه على احتواء أية خلافات طبيعية يمكن أن تحدث. ونشير في هذا المجال إلى أن الرئيس “عبدالفتاح السيسي” كان في طليعة زعماء العالم الذين قدموا التهنئة للرئيس الأمريكي المنتخب. 

وفي الجانب المقابل فإن إدارة الرئيس “بايدن” سوف تواصل تعاملها مع مصر باعتبارها أحد بل أهم ركائز الاستقرار والأمن في المنطقة، لا سيما وأن مصر تتمتع بعلاقات جيدة مع كافة الأطراف في المنطقة، وتشارك بفاعلية في المساهمة في حل المشكلات المثارة حاليًا، والتي ستسعى الإدارة الديمقراطية للاستفادة من هذا الدور المصري المميز المنخرط بقوة في قضايا المنطقة بصفة عامة والقضية الفلسطينية والأزمة الليبية ومواجهة الإرهاب بصفة خاصة.

ثانيًا: العلاقات مع إسرائيل
تمثل إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة ركيزة هامة في منطقة الشرق الأوسط لاعتبارات متعددة أمنية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية، ومن ثم ستظل إسرائيل أحد أهم أعمدة تعامل إدارة “بايدن” مع المنطقة، ومن ثم يخطئ كل من يعتقد أن الإدارة الجديدة سوف تكون لها مواقف مؤثرة ضد إسرائيل أهم حلفائها على مستوى العالم وليس المنطقة فقط.

يظل الحفاظ على الأمن الإسرائيلي وكذا الحفاظ على تفوقها العسكري في المنطقة أحد الالتزامات التي سوف تحرص إدارة “بايدن” على التمسك بها وعدم التفريط فيها تحت أية مبررات، ويكفي هنا أن نستذكر أن أهم صفقة أسلحة بين إسرائيل والولايات المتحدة تمت في عهد الرئيس الديمقراطي “باراك أوباما”.

لا شك أن الإدارة الأمريكية الجديدة لن تتمسك بخطة السلام الأمريكية المطروحة في يناير 2020، ولن تتعامل بالمبادئ الواردة بها، حيث إنها تختلف مع العديد من هذه المبادئ، وبالتالي ستحرص إدارة “بايدن” على إعادة التأكيد على مبدأ حل الدولتين بشكل مخالف لما ورد بـ”صفقة القرن” خاصة بالنسبة للسماح لإسرائيل بضم منطقة غور الأردن، ومواصلة سياسة الاستيطان من منطلق رفض قيام أي طرف باتخاذ إجراءات أحادية الجانب.

وفي الوقت نفسه لن يتخذ “بايدن” أية قرارات لإلغاء قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو عدم الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وإن كان سيحرص على التأكيد على أن تظل قضية القدس قضية مفتوحة يتم حسمها في مفاوضات الحل الدائم.

ولعل أهم ما يمكن أن يكون منحة أو هدية من الإدارة الأمريكية الجديدة لتؤكد بها تميز علاقتها مع إسرائيل أن تعيد تأكيد اعترافها بيهودية الدولة، وأنها لن تقدم على تغيير موقفها في هذا المجال حتى لو تم استئناف عملية السلام في الشرق الأوسط.

هناك إمكانية كبيرة لأن يقوم الرئيس “بايدن” بإعادة النظر في قرار “ترامب” بالنسبة للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، حيث إن هذه القضية لا يمكن أن يتم حسمها أيضًا إلا من خلال المفاوضات الإسرائيلية – السورية.

ثالثًا: العلاقات مع السلطة الفلسطينية
لم تشهد العلاقات الفلسطينية – الأمريكية فترة من التدهور أكثر مما شهدته هذه العلاقات خلال فترة الرئيس “ترامب” الذي اتخذ كافة القرارت السياسية والاقتصادية، ليس فقط ضد القضية الفلسطينية وإنما أيضًا ضد السلطة الفلسطينية، سواء من خلال طرح “صفقة القرن” بكل تحيزها الواضح لإسرائيل، أو من خلال القرارات العقابية ضد وضعية منظمة التحرير ووكالة غوث اللاجئين.

ولا شك أن القرار الذي اتخذته السلطة الفلسطينية مؤخرًا بإعادة الاتصال والتنسيق الأمني مع إسرائيل بعد فترة من التوقف يعتبر رسالة مباشرة لإدارة الرئيس “بايدن” باستعداد السلطة الفلسطينية للتعامل مع الإدارة الجديدة، وفتح صفحة إيجابية في العلاقات معها من خلال الحوار الموضوعي الذي يحقق السلام لجميع الأطراف في المنطقة.

سوف تركز إدارة الرئيس “بايدن” على التعامل الهادئ مع السلطة الفلسطينية، وإعادة المزايا التي كان يتمتع بها مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإعادة المخصصات لوكالة غوث اللاجئين، واستئناف المساعدات المادية المقدمة للسلطة، وهي كلها أمور لن تستطيع إسرائيل الوقوف في مواجهتها نظرًا لأن هذا الوضع كان مستمرًّا لفترة طويلة ولم يتغير إلا في منتصف فترة حكم الرئيس “ترامب”.

كما سوف تسعى إدارة الرئيس “بايدن” إلى محاولة توفير المناخ الملائم أمام إمكانية استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بمرجعيات مقبولة على أساس مبدأ حل الدولتين بشكل أفضل مما تم طرحه في “صفقة القرن”، على أن يتم إخضاع كافة قضايا الحل النهائي دون استئناء للعملية التفاوضية. 

رابعًا: العلاقات الإسرائيلية-العربية
يجب الأخذ في الاعتبار أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية برئاسة الرئيس “جيمي كارتر” كانت هي أول من ساهم في وضع حجر الأساس للعلاقات الإسرائيلية العربية من خلال أنها كانت الراعية بل الشريك الكامل في معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية الموقعة في 26 مارس 1979, كما أن الرئيس الديمقراطي “بيل كلينتون” كان قد طرح مبادرة عام 2000 في إطار ما سُمي آنذاك بكامب ديفيد 2 من أجل التسوية النهائية والشاملة للقضية الفلسطينية، والتي تضمنت بعض النقاط الإيجابية والأخرى السلبية، ولكنها في النهاية لم تجد طريقها للنجاح.

من الواضح أن الرئيس “ترامب” كان له دور هام في دفع التطبيع الإسرائيلي مع كل من الإمارات والبحرين والسودان، سواء لدعم وضعيته الشخصية أو لدعم رئيس الوزراء “نتنياهو” وهو الأمر الذي من الطبيعي أن يثير التساؤل حول إمكانية استمرار قطار التطبيع خلال المرحلة القادمة من عدمه. 

وفي رأيي أن إدارة الرئيس “بايدن” لن تعارض هذا النهج في مجال التطبيع، وسوف تحرص على أن تواصل دعمها لتوسيع نطاق العلاقات الإسرائيلية العربية حتى وإن شهدنا قدرًا من التباطؤ أو التأني في هذا المسار قليلًا، ولكن من المؤكد أنه سوف يكون هناك تنسيق إسرائيلي أمريكي من أجل الاتفاق على طبيعة الدول التي سيتم تطبيع العلاقات معها.

خامسًا: الأزمة الليبية
لم تكن الولايات المتحدة منخرطة بشكل كبير ومباشر في الأزمة الليبية مقارنة بموقف روسيا أو تركيا، إلا أن واشنطن كانت حريصة -في الوقت نفسه- على أن تمتلك في يدها قنوات اتصال مع معظم الأطراف الفاعلة، وبالتالي تتدخل في هذه الأزمة على فترات طبقًا تحقيقًا لمصالحها، ولا سيما بالنسبة لوضع منطقة الهلال النفطي الليبي.

حرصت إدارة الرئيس “ترامب” على المشاركة بفاعلية في جهود تسوية الأزمة الليبية، حيث شاركت في مؤتمر برلين الذي عُقد في يناير من العام الجاري، ثم أسرعت بتأييد إعلان القاهرة الصادر في يونيو 2020 الخاص بوضع كافة الأسس لحل هذه الأزمة بما يؤدي إلى استعادة الدولة الليبية الوطنية الموحدة المستقرة.

من المتوقع ألا تقوم الإدارة الديمقراطية بتغيير واضح في السياسة الأمريكية تجاه الأزمة الليبية من حيث عدم الانخراط بقوة في غياهب هذه الأزمة، مع القيام بدور محسوب بحيث يؤدي في النهاية إلى تحقيق المصالح الأمريكية، وخاصة في مجال تأمين مناطق النفط ومواجهة النفوذ الروسي وتحجيم الطموح التركي.

سادسًا: العلاقات مع دول الخليج 
تظل منطقة الخليج من أهم المناطق الاستراتيجية للولايات المتحدة التي تحرص على أن تظل علاقتها بها متواصلة ومتطورة نظرًا للعديد من الاعتبارات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، ويمكن في هذا المجال الإشارة إلى التميز الواضح في العلاقات الأمريكية مع كل من السعودية والإمارات والبحرين وقطر.

سوف تحرص إدارة الرئيس “بايدن” على أن تواصل علاقاتها المتميزة مع كافة دول الخليج، ولن تكون هناك خلافات استراتيجية تؤثر على جوهر العلاقة بينهما، ولن تخرج أية اختلافات متوقعة عن إطارها التكتيكي فقط, وفي الوقت نفسه لا يمكن استبعاد مساهمة الإدارة الجديدة في تحقيق المصالحة الخليجية.

كما ستكون علاقات الإدارة الجديدة مع إيران أحد أهم مفاتيح العلاقة الأمريكية مع دول الخليج خلال المرحلة القادمة، حيث ستحرص إدارة “بايدن” على بث الطمأنينة لهذه الدول بأن أي تطور إيجابي محتمل في العلاقات الأمريكية الإيرانية لن يكون على حساب العلاقات الأمريكية الخليجية، وأن الإدارة الديمقراطية لن تسمح لإيران بتهديد دول الخليج.

سابعًا: العلاقات مع إيران
اتخذ الرئيس “ترامب” قرارًا في 18 مايو 2018 بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني مع تشديد العقوبات على النظام الإيراني والمؤسسات المتعاملة معه، وذلك في محاولة للضغط على هذا النظام لتغيير سياساته العدائية تجاه دول المنطقة بصفة عامة ودول الخليج بصفة خاصة، مع طرح واشنطن اثني عشر شرطًا جديدًا على إيران أن تلتزم بها من أجل توقيع اتفاق نووي جديد معها، وهو الأمر الذي رفضته إيران.

وبالرغم من ذلك كانت إيران حريصة على عدم التنازل عن مواقفها والتأكيد على الاستمرار في برنامجيها النووي والصاروخي، واتخاذ قرار باستئناف تخصيب اليورانيوم، خاصة وأن الدول الأوروبية الأخرى (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا) لم تنسحب من الاتفاق النووي، واستمرت في علاقاتها مع إيران مع بعض التحفظات من جانبها على السياسات الإيرانية، ثم حاولت إثناء الرئيس “ترامب” عن موقفه دون جدوى.

لم يكن الديمقراطيون على وفاق مع الحزب الجمهوري بالنسبة لسياسة التعامل مع إيران وممارسة أقصى قدر من الضغوط عليها بما يزيد من تشددها، وإن كان من الضروري الإشارة إلى أن الهدف النهائي للسياسة الأمريكية ككل والذي لن يتغير يتمثل في منع إيران تمامًا من امتلاك السلاح النووي.

ترى الإدارة الديمقراطية أن هذا الهدف يمكن تحقيقه ليس من خلال انتهاج سياسة حافة الهاوية ولكن من خلال تفعيل العمل الدبلوماسي والحوار والعودة إلى الانضمام للاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) بشرط التزام إيران بكافة بنوده في المجالين النووي والصاروخي دون استثناء.

وفي الوقت نفسه سوف تمنح إدارة الرئيس “جو بايدن” إيران فترة من الوقت حتى تستكشف طبيعة تصرفاتها وسلوكها ومدى إمكانية مواصلة سياسة تهديد جيرانها ودول المنطقة والحرب بالوكالة التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من سياستها الإقليمية، ومن ثم سوف يقوم الرئيس “بايدن” في أعقاب تقييم هذه الفترة بتحديد سياسة التعامل الأمريكي المستقبلى مع إيران سلبًا أم إيجابًا.

ثامنًا: العلاقات مع تركيا
تعاملت إدارة الرئيس “ترامب” مع النظام التركي بطريقة انتابها الكثير من الغموض والتباين، فبالرغم من وجود خلافات بينهما تجاه معالجة الأوضاع في سوريا والتعامل مع الأكراد والموقف في ليبيا، بالإضافة إلى التطور الإيجابي في العلاقات بين تركيا وروسيا وحصولها على منظومة الدفاع الجوي الروسية S 400، إلا أن هذه التوجهات التركية لم تدفع واشنطن إلى تغيير سياساتها أو محاولة الضغط الحقيقي المطلوب على تركيا، خاصة مع التهديدات التركية لليونان ومحاولة امتداد نفوذها في المناطق الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط، والتي تدخل ضمن الحدود البحرية اليونانية, مع الأخذ في الاعتبار أن بعض العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على النظام التركي لم تثنه عن الاستمرار في سياساته المتطرفة.

سوف تتجه الإدارة الديمقراطية إلى انتهاج سياسة أكثر تحديدًا ووضوحًا تجاه تركيا بهدف ضبط العلاقات معها حتى لا تنتهج سياسات تتعارض مع المصالح الأمريكية في المنطقة، بل في مناطق أخرى من العالم، حتى لو أدى ذلك إلى ممارسة بعض الضغوط الأكثر تأثيرًا على النظام التركي لتحجيم طموحاته غير المشروعة ونفوذه المتزايد. ومن الملاحظ أن “أردوغان” بدأ في الإعداد لمرحلة التعامل مع إدارة “بايدن” أملًا في عدم تدهور العلاقات بين الدولتين.

تاسعًا: الأزمة السورية
سعت إدارة الرئيس “ترامب” إلى ألا تتورط بشكل كبير في الأزمة السورية، وأن يقتصر وجودها العسكري على أعداد قليلة من القوات والخبراء في أعقاب قرار انسحابها من شرقي سوريا في ديسمبر 2018, وتحركت واشنطن بصورة واضحة من أجل إحداث التوازن مع الوجود الروسي المتزايد في سوريا، ومحاولة تحجيم النفوذ الإيراني, كما قامت بتغيير نسبي في موقفها تجاه النظام السوري والانتقال من ضرورة إزاحته فورًا إلى التمهيد لإمكانية القبول المشروط ببقائه.

من المتوقع ألا يكون هناك تغيير واضح في موقف إدارة الرئيس “بايدن” تجاه هذه الأزمة، حيث ستحرص الإدارة الديمقراطية على دعم كل جهد من شأنه تحقيق الاستقرار في سوريا، وتحجيم النفوذ الإيراني، وإن كان هذا الأمر سوف يرتبط بتحسن العلاقات الأمريكية مع كل من روسيا وإيران (نشير إلى أن هناك عددًا من القوات الأمريكية حول مواقع النفط لمنع وصول الجماعات الإرهابية أو حتى النظام نفسه إليها، وكذا هناك عدد من النقاط على خط التماس مع المناطق الكردية).

كما سيحرص الرئيس “بايدن” على أن يكون هناك تنسيق متواصل مع إسرائيل فيما يتعلق بالتواجد الإيراني في سوريا باعتباره يمثل تهديدًا للأمن الإسرائيلي وحتى لا يكون هناك تدخل إسرائيلي في الأزمة السورية يزيد من تعقيد إمكانية التوصل إلى التسوية السياسية المرتقبة.

سوف تواصل إدارة “بايدن” الالتزام بما أطلق عليه قانون “قيصر” للحماية المدنية للسوريين والذي يفرض العقوبات على المسئولين السوريين والدول والمؤسسات التي تدعم النظام السوري، مع فتح المجال أمام إمكانية إلغاء هذا القرار طبقًا لتحسين الإجراءات السورية الإنسانية ووقف العنف ضد المدنيين.

لن تتجه إدارة “بايدن” إلى العمل على إزاحة النظام السوري الحالي الذي أصبح بقاؤه مطلوبًا من العديد من الدول على المستويين الإقليمي والدولي حتى يمكن الوصول إلى مرحلة الدحض الكامل للإرهاب وتحقيق الاستقرار السياسي الذي يتيح إجراء الانتخابات الرئاسية، ومن ثم يصبح الشعب السوري هو صاحب القرار في اختيار من يحكمه, وقد يكون هناك تغيير في السياسة السورية لمخاطبة الإدارة الجديدة من أجل فتح قنوات اتصال معها.

عاشرًا: العلاقات مع العراق
لا يمكن تجاهل أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 في عهد الإدارة الجمهورية برئاسة الرئيس “بوش الابن” كان أحد العوامل التي أثرت على وضعية دولة قوية بحجم العراق، وأدى إلى أن أصبحت دولة تعاني من عدم الاستقرار حتى الآن، مع الأخذ في الاعتبار الدور الإيراني الذي أدى إلى وصول العراق إلى هذا الوضع.

ولا شك أن الولايات المتحدة قامت بعد قرار سحب قواتها من العراق والقضاء على تنظيم “داعش” بالتعامل مع العراق بشكل أكثر تحضرًا، وتحاول تقديم المساعدات العسكرية والأمنية والاقتصادية لها, إلا أن تنظيم “داعش” بدأت بعض خلاياه في العودة تدريجيًا حيث بدأت الساحة العراقية تشهد مؤخرًا قدرًا من عدم الاستقرار وعودة بعض العمليات التي تنفذها “داعش”.

وفي كل الأحوال فإن هناك مهمة رئيسية أمام الإدارة الأمريكية الجديدة تتمثل في منع عودة تنظيم “داعش” أو أية جماعات إرهابية إلى العراق، والعمل على دعم استقرار العراق، مع اقتصار التواجد العسكري والأمني على بعض الخبراء والمستشارين في مجال التدريب. أما مسألة تحجيم النفوذ الإيراني في العراق فهو أمر صعب التنفيذ، وسوف يرتبط بتحسن العلاقات الأمريكية الإيرانية بصفة عامة. 

وفي هذا المجال، لا بد أن نشير إلى أن إدارة “بايدن” سوف تواجه تحديًا آخر والمتمثل في القرار الذي صوت عليه مجلس النواب العراقي بإلزام الحكومة العراقية بالعمل على إنهاء وجود جميع القوات الأجنبية من الأراضي العراقية (نشير إلى أن عدد القوات الأمريكية الحالية في العراق يصل إلى حوال 2500 فرد).

حادي عشر: الأزمة اليمنية 
لا شك أن أحد أهم الأهداف الأمريكية وهي تتعامل في الأزمة اليمنية هو حماية المرور في الممرات المائية الحيوية في هذه المنطقة (مضيق باب المندب ومضيق هرمز)، ومن ثم سعت إلى التواجد العسكري البحري المكثف في هذه المنطقة وبالقرب منها للحفاظ على حركة التجارة الدولية التي تستخدم هذه الممرات.

كما حرصت إدارة الرئيس “ترامب” على أن تدعم الموقف السعودي تجاه تطورات الأوضاع في اليمن من منطلق قناعتها بأن اليمن تمثل أحد مهددات الأمن القومي السعودي، ومن ثم دعمت التحالف العربي لمواجهة النفوذ الإيراني في اليمن، وبمعنى أدق نفوذ وكيله الحوثي الذي أصبح قادرًا على تهديد دول الخليج وخاصة السعودية من خلال إطلاق الصواريخ الباليستية وطائرات الدرونز على المواقع السعودية الهامة، ولا سيما بعض المواقع البترولية والمطارات.

سوف تحاول إدارة الرئيس “بايدن” ألا تتورط في هذه الأزمة، وستسعى إلى دعم التسوية السياسية للأزمة اليمنية من خلال التنسيق مع كل من السعودية والإمارات من خلال محاولة تنفيذ كل من (المبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني، والقرار الأممي رقم 2216), كما سيكون لمستقبل العلاقات بين الإدارة الجديدة وإيران تأثير واضح على حل هذه الأزمة، وتحجيم مخاطر الحوثيين التي تهدد بشكل كبير دول الخليج.

ثاني عشر: العلاقات مع السودان
لا شك أن الفترة التي أعقبت سقوط نظام “البشير” فتحت الطريق أمام الولايات المتحدة للتعامل مع السودان بطريقة أفضل، خاصة مع تولي الدكتور “حمدوك” رئاسة الوزراء والعلاقات الجيدة التي ربطت رئيس مجلس السيادة السوداني “عبدالفتاح البرهان” مع واشنطن, وقد جاء تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل مؤخرًا عاملًا رئيسيًا مهد الطريق أمام الولايات المتحدة لتوقيع قرار رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والموافقة على البدء في تقديم المساعدات الاقتصادية له.

لن تشهد إدارة الرئيس “بايدن” تغييرات ملحوظة في التعامل مع السودان، حيث ستواصل العلاقة معها على هذه الأسس الجديدة، وتقديم مزيد من الدعم لها من أجل الوصول إلى إنهاء الفترة الانتقالية بنجاح، وكذا دعم موقف السودان من أجل تحقيق الاستقرار في إقليم دارفور وإنجاح الاتفاق الذي تم توقيعه في جوبا في أكتوبر الماضي بين الحكومة السودانية وبين الفصائل المسلحة.

ثالث عشر: مشكلة سد النهضة الإثيوبي
حققت إدارة الرئيس “ترامب” تقدمًا ملحوظًا في مفاوضات سد النهضة من خلال دور الوساطة الفعالة الذي قامت به مع البنك الدولي ابتداء من نوفمبر 2019 وحتى تم التوصل إلى صياغة اتفاق متكامل بشأن إدارة وتشغيل السد في نهاية فبراير 2020، وقامت مصر وحدها من خلال السيد وزير الخارجية بالتوقيع على هذا الاتفاق، وغابت إثيوبيا عن الاجتماع من الأساس، بينما لم توقع السودان على الاتفاق، ومن ثم لم يحدث أي تقدم في المفاوضات منذ هذا التوقيت وحتى الآن رغم الوساطة التي يقوم بها الاتحاد الإفريقي.

تُعد هذه القضية من القضايا التي يمكن لإدارة الرئيس “بايدن” التعامل معها وتحقيق إنجاز فيها، حيث إنها لن تبدأ من نقطة الصفر في ظل وجود العديد من الاتفاقات والتفاهمات السابقة، كما أن ذلك سيمثل نجاحًا يحسب للإدارة الجديدة، خاصة إذا تم ذلك في العام الأول من توليها السلطة.

وقد تكون أهم العقبات المثارة أمام الإدارة الجديدة طبيعة الأوضاع الداخلية في إثيوبيا، ومدى انتهاء القلاقل الداخلية عندما يتولى “بايدن” السلطة، خاصة وأن التصريحات الحالية الصادرة من مسئولي الحزب الديمقراطي الأمريكي توجه انتقادات شديدة لرئيس الوزراء “آبي أحمد” بشأن الآثار الإنسانية السلبية وتشريد وتهجير آلاف السكان نتيجة لهذا التدهور في الوضع الداخلي.

رابع عشر: قضية الإرهاب 
حرص الرئيس “ترامب” على أن يحقق بعض الإنجازات منذ بداية حكمه في مجال مكافحة الإرهاب، حيث نجح في القضاء على تنظيم “داعش” في العراق، ثم نجح في قتل بعض العناصر الهامة التي اعتبرها نماذج للإرهاب في المنطقة من بينهم “أبو بكر البغدادي” قائد تنظيم القاعدة في العراق الذي تم قتله في أكتوبر 2019 في إدلب شمال غرب سوريا، و”قاسم سليماني” قائد فيلق القدس الذي تم قتله في بغداد في يناير من العام الحالي.

تعد مواجهة الإرهاب بكافة صوره وأشكاله أحد أهم العناصر المشتركة لكل الإدارات الأمريكية، وإن كانت إدارة “بايدن” ستكون مضطرة للتعامل مع المحاولات الجديدة التي تقوم بها بعض الجماعات الإرهابية خاصة تنظيم “داعش” للعودة من جديد لا سيما في العراق أو سوريا، أو المرتزقة والميليشيات الموجودة في ليبيا وغيرها من الجماعات التي يمتد نشاطها حتى منطقة الساحل والصحراء، وستحرص الإدارة الجديدة على أن تواصل نجاحات الإدارة السابقة في مواجهة الإرهاب."

واختتم اللواء محمد ابراهيم مقالته بالتأكيد على انه " من الطبيعي أن يكون تولي إدارة ديمقراطية جديدة للسلطة في الولايات المتحدة بعض الانعكاسات على أسلوب تعاملها وشكل معالجتها لقضايا المنطقة، وهو أمر طبيعي نظرًا لاختلاف رؤية كل إدارة عن الأخرى في معالجة هذه القضايا, ولا يجب أن ننسى أن المهمة الأولى والرئيسية للإدارة الديمقراطية الجديدة خلال الأشهر الأولى سوف تركز على مواجهة آثار فيروس (كوفيد-19) الذي يسري في الولايات المتحدة دون هوادة.

وفي الوقت نفسه ليس من المنطق أن تكون هناك أية تخوفات من طبيعة العلاقات العربية المقبلة مع إدارة الرئيس “بايدن” الديمقراطية، خاصة في ظل عاملين رئيسيين: العامل الأول أننا نتحدث عن دول عربية ذات ثقل وتأثير حقيقي في السياسة الدولية سياسيًا واقتصاديًا, والعامل الثاني أن منطقة الشرق الأوسط تمثل منطقة استراتيجية تحرص الولايات المتحدة على استقرارها حفاظًا على مصالحها، خاصة مع تمدد النفوذ الروسي والإيراني والتركي وبما قد يهدد هذه المصالح بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي لن تتخذ إدارة “بايدن” أية قرارات مؤثرة تتعارض مع هذه المصالح، خاصة وأن المرحلة القادمة قد تشهد البدء في عمليات إعادة الإعمار في بعض دول المنطقة التي بدأت تضع قدميها على مسار التسوية السياسية.

وبالتالي، يمكن القول إن المطلوب خلال المرحلة المقبلة وفي إطار رؤية أشمل للعلاقات العربية مع الإدارة الديمقراطية الجديدة يتمثل في ضرورة أن تكون لدينا أولًا الثقة في مقدرات ما نملكه من مقومات لا يمكن لأحد تجاهلها, وثانيًا القراءة الجيدة الدقيقة المستفيضة لرؤية إدارة الرئيس “ترامب” في طبيعة التعامل مع قضايا وزعامات المنطقة، وثالثًا أهمية التعرف عن قرب على أطقم العمل والمسئولين الجدد الذين تم ترشيحهم لتوكل إليهم ملفات العالم والمنطقة (ترشيح أنتوني بلينكين مساعد مستشار الأمن القومي السابق وزيرًا للخارجية – ترشيح جايك سوليفان مستشارًا للأمن القومي)، ومن ثم تصبح هناك ضرورة لإعادة ترتيب أولويات التعامل العربي (الجماعي أو الفردي) مع هذه الإدارة الجديدة من واقع الخبرات السابقة والمتغيرات الأخيرة بحيث يتم تعظيم الإيجابيات وتحجيم السلبيات والتعامل بالندية والموضوعية في إطار علاقات استراتيجية يستفيد منها الجانبان".