أرض الألم..الحلقة 3..الاتجار بالبشر.."قوارب الموت"على شواطئ طرابُلس تحمل اللبنانيين للمجهول هرباً من جحيم الواقع.."تجارة الموت"تزدهر بالشمال..وناجون من براثن الهجرة غير الشرعية يروون تفاصيل الساعات المظلمة

الأربعاء، 25 نوفمبر 2020 10:35 م
أرض الألم..الحلقة 3..الاتجار بالبشر.."قوارب الموت"على شواطئ طرابُلس تحمل اللبنانيين للمجهول هرباً من جحيم الواقع.."تجارة الموت"تزدهر بالشمال..وناجون من براثن الهجرة غير الشرعية يروون تفاصيل الساعات المظلمة الطفل محمد ضحية قوارب الموت فى أرض الألم
طرابلس ـ شمال لبنان إيمان حنا

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 

ـ أرقام صادمة

 

ـ إيقاف596مهاجراً من لبنان وضبط20قارب هجرة غير شرعية منذ أغسطس حتى بداية نوفمبر 2020(وفق القوات البحرية اللبنانية)

 

ـ 5ملايين ليرة..تكلفة رحلة الموت،يدفعها المهاجر اللبنانى للمُهرب وتختلف الأسعار بحسب ضمانات الوصول

 

ـ 554مهاجرا لقوا حتفهم بمياه المتوسط،منذ الأول من ينايرحتى الأول من سبتمبر عام2020،وفق تقديرات المنظمة الدولية للهجرة

 

 

 

ساعات أمضوها يصارعون الموت وأمواج البحر العاتية،يحدوهم الأمل فى الوصول للشواطئ الأوربية"أرض الأحلام"لهؤلاء الحالمين بحد الكفاف لأطفالهم..جمعوا يأس الحاضر وآمال المستقبل فى حقائب استدانوا لشرائها،وقرروا الهجرة بقوارب عشوائية عبر قبرص وصولاً إلى إيطاليا وغيرها من بلدان أوربا ليواجهو المجهول!

لم يصل القارب الذى انطلق سبتمبر الماضى من شواطئ مدينة طرابلس بمحافظة شمال لبنان ـ حاملاً على متنه45شخصا غالبيتهم لبنانيون مع عدد من السوريين ـ متجهاً إلى ذلك البر الأوربى المأمول عبر قبرص،التى تبعد276 كيلومترا عن بيروت،بل ظلوا أياماً تائهين بالمياه الإقليمية،والتهم الموت6أشخاص منهم وطفلين،أما المتبقون فعادوا لمنازلهم يمزقهم الألم.

هذه المأساة تُعيد تسليط الضوء على قضايا ربما تكون منسية وسط متاهة الحياة السياسية بلبنان،وتدق ناقوس الخطر لتفاقم كارثة الهجرة غير الشرعية مؤخرا بوتيرة متسارعة،بالتزامن مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والتدهور الكبير بالمستوى المعيشى.

 

لحظة إنقاذ المتبقين على قارب الموت
لحظة إنقاذ المتبقين على قارب الموت

"الهجرة غير الشرعية"تفتح أيضاً جروحاً متقيحةً بجسد طرابلس المنهك..فـ"الفيحاء"كما تُسمى،على الرغم من كونها عاصمة محافظة الشمال وثانى أكبر المدن اللبنانية بعد بيروت وواحدة من أهم مدن البحر الأبيض المتوسط،إلا أنها من أشد مدن لبنان فقرا..ما يطرح تساؤلات كثيرة،فالهجرة العشوائية بمثابة عَرَض لمرض تعانى منه تلك المدينة منذ سنوات دون أن تقدم لها الدولة علاجا شافيا..وهذا ما سنحاول طرحه فى هذا التحقيق..

قارب الموت

لم يكن ذلك القارب القصة الأولى لـ"قوارب الموت"بل سبقه عدة رحلات انطلقت من ذات الشواطئ الشمالية،وإن اختلفت فى بعض تفاصيلها لكن النهاية تقريباً واحدة،فالبحر يبتلع بعضهم بينما تُعيد السلطات القبرصية الناجين،فى الوقت الذى يحاول الجيش اللبنانى تكثيف دورياته البحرية للحد من الهجرة العشوائية.

آخر صورة التقطت للضحايا على القارب
آخر صورة التقطت للضحايا على القارب

من بين تلك الرحلات،قارب انطلق فى أغسطس الماضى حاملاً على متنه عشرات السوريين واللبنانيين الذين أعادتهم السلطات القبرصية إلى لبنان بعد أن وصلوا شواطئ قبرص،وبين من كانوا على متنه الشاب اللبنانى شمس الدين كردلى،الذى تحدث بصوتٍ متهدج واصفاً مأساته ومن معه على متن القارب،قائلا:"إحنا بنبيع اللى فوقنا واللى تحتنا حتى نطلع بالبحر وما عندنا خيار تانى..بنخاطر بحياتنا لأننا فى بلدنا مش لاقيين الأمان".

قصص من قلب البحر

"كاد الفقر أن يكون كفرا"..ربما يكون هذا الحديث النبوى الأكثر تعبيرا عن حال هؤلاء الذين تعددت مآسيهم على متن قارب الموت الذى انطلق من شواطئ طرابلس مؤخرا،من بينهم الشاب"محمد"،الذى قذفت مياه البحر جثته بعد أن ظل يسبح فى المياه لساعات محاولا إيجاد من ينقذه ورفاقه،ولكن دون جدوى..فعاد جثة هامدة.

أجزاء من الرسالة التى ربطها المهاجرون على بطن أحد الضحايا
أجزاء من الرسالة التى ربطها المهاجرون على بطن أحد الضحايا

"زوجى كان يشتغل على عربية بوظه وانكسر علينا إيجار البيت9شهور،وعندنا طفلين محتاجين حليب وحفاضات منهم بنت مريضة بنقص المناعة،كنا بنبوس أيد الناس عشان حد يفوتها على المستشفى"، بهذه الكلمات وصفت سعاد محمد زوجة شادى رمضان ـ أحد الذين كانوا مفقودين من ركاب القارب ثم ظهرت جثته ـ الظروف التى دفعت زوجها للهجرة،تمسح دموعها بكفيها وهى تقول:زوجى كان مريض سكر وما كان يقدر يشترى أدويته،وكل اللى كان بيطلعه يدوب لحليب الولاد".

أضافت سعاد،«حكيوا الشباب أن السكر هبط عنده،وصار يطلب حبة تمر وما حد قدر يساعده،وارتفعت حراراته،وفى الآخر زَد حاله فى الميه على أمل يلاقى حد ينقذهم".

 

أطفال "قارب الموت"

لم تستطع أجسادهم النحيلة تَحمل الجوع وملوحة مياه البحر،التى اضطروا لتجرعها مع الحليب، ففارقوا الحياة ليكونوا أول ضحايا"رحلة الموت".

فى البداية لم يفقد أهالى الطفلين المتوفيين"محمد وسفيان"،الأمل فى الفوز بأبسط حقوق الإنسان وهى أن يدفنوا أطفالهم فى قبور بدلا من أن يأخذهم البحر،فربطوا الجثامين بالقارب،آملين فى أخذها إذا تمكن أحد من إنقاذهم،لكن هذا الحلم أيضًا عز تحقيقه فالنجدة لم تأتِ،وبمرور الوقت بدأت الروائح الكريهة تنبعث من الجثث،فاضطر الآباء لرميها فى البحر.

 

الطفل المتوفى سفيان ووالده
الطفل المتوفى سفيان ووالده

فى طرابلس وتحديدا بمنطقة"القبة"،أحد أشد أحياء المدينة فقرا،يجلس على باب بناية متهالكة،محمد محمد سفيان(23عاما)،أحد الناجين من القارب بعد أن اختطف الموت طفله سفيان(عامان و4 أشهر)،قال لنا:«اضطريت أرمى ابنى فى البحر بعد ما مات من العطش والجوع..كان بيصرخ فملأت الببرونة بمية البحر مع الحليب وشربها كلها ورجعت مليتها كذا مرة حتى يشبع،بعدها ارتفعت حراراته،ضل سفيان على صدر أمه لحد ما مات،وضلت أمه حاضنة جثته3أيام،بعدها اضطريت أكبه بالبحر".

"كانت تنظر لسفيان والحسرة بتاكل قلبها وإحنا بنرميه،كانت عاوزة تمسك الموج حتى ماياخده»،هكذا وصف محمد حال زوجته«عبيدة»الأم المكلومة.

 

e634de50-18d0-4bc9-a0d2-648b752031ab

يروى الأب قصته والدموع تملأ عينيه:«طلعت المركب يائس بلا عمل،كنت بشتغل فى مطعم من سنتين وخسرته بسبب الأزمة الاقتصادية..هون ما فى عمل،حتى لو اشتغلت المعاش"الراتب"ما بيكفى الضروريات..ما كنت أقدر أشترى لابنى كيس شبيسى،ولما كان ينزل معى الشارع كنت بغطى عيونه حتى لا يطلع على الحلويات فى الدكان،كانت أمنيته قبل ما يموت بسكلته وما قدرت أشتريها".

يستكمل قصته،قائلا:«اتعرفت بشخص اسمه برهان أطريب قالى هجيبلك فرصة سفر لأوروبا،وأخد منى المصارى وبعد أيام خدنا للمركب وهناك تركنا.كبار العصابة أحمد صفيان وعلى صفيان،وما حد كمشهم(قبض عليهم)حتى الآن،رغم أنهم معروفين فى البلد لأنهم محميان من الكبار»!. 

الطفل محمد مع جده قبل أن تغتاله مياه البحر
الطفل محمد مع جده قبل أن تغتاله مياه البحر

أضاف:«البحر فالت ما فيه حراسة،مِرات عمى بلغت أن فيه قارب مفقود،لكن ما حد بحث عنا»،استطرد الأب،قائلا: «هرجع أعيد المحاولة تانى حتى لو هنموت أنا وزوجتى واللى فى بطنها..مش فارق معانا الموت،إحنا كدا كدا ميتين".

محمد حمل المسئولين والسياسيين بلبنان مسؤولية فقدان طفله.

الجوع قتل ابنى!

لا تختلف قصة الطفل محمد نظير(3سنوات)،عن سفيان محمد الذى سبقه للموت،فقد روى والده المأساة ذاتها قائلا:«أنا أب لأربعة أطفال وما معى حق تعليمهم..كنت ميكانيكى سيارات ولما ضاقت فرص الشغل صرت مش قادر أشترى الضروريات..بعت فرش البيت لأدفع تكلفة السفر".

الطفل محمد نظير
الطفل محمد نظير

باتت الكلمات ثقيلة على لسان الأب،وهو يقول: «ابنى مات فى البحر بس لو ضل هنا كان هيموت كمان من الجوع»،واستكمل سرد قصته:«كفنته وربطته بالقارب وبعد كام يوم رميته فى البحر،بعدها توفى شاب هندى فكتبنا رسالة استغاثة وضعناها بجيبته قبل ما نرميه حتى اللى يلاقى جثته يجى وينقذنا،كتبنا فيها:«نحن45شخصا على قارب مقطوعين فى المياه الإقليمية من المازوت والأكل..على من يقرأ الرسالة الإسراع بإنقاذنا أو الإبلاغ عنا".

أما«زينب القاق»والدة الطفل محمد فبالكاد تفهم كلماتها الممزوجة بصرخات مدوية من قلب مقهور،وهى تتهم السياسيين بقتل طفلها،قائلة:"ما شبعتوا مصارى..بجشعكم قتلتوا ابنى..الجوع قتله،ما بقدر أنسى صوته وهو بيصرخ ماما جوعان،عطشان..ضليت أراقب أنفاسه لحد ما مات..استسلمنا وكل واحد صار منتظر دوره ليموت».

054ec406-56a2-4517-b824-96a8e6176f82
أحد المفقودين ..محمد خلدون

حال أسرة نظير لا يختلف عن بقية الأسر الذين دفعهم اليأس وضيق ذات اليد للمخاطرة،قال نظير: «ماعدنا قادرين نشترى حتى الأكل والدولة مش حاسة بنا،عشنا أيام مرعبة فى البحر بس يمكن كان أحن علينا من المسؤولين ببلدنا».

الهجرة غير الشرعية..اتجار بالبشر

لا يزال مئات المهاجرين يلقون حتفهم في مياه البحر المتوسط،فتقديرات المنظمة الدولية للهجرة تكاشفنا بأن554مهاجرا لقوا حتفهم منذ بداية يناير2020حتى الأول من سبتمبر.

 تمثل الهجرة العشوائية تحديًا كبيراً لأوروبا،حيث تسببت بخروقات لأسس التكامل الأوروبى،ففى عام2015وصل1.014.836من المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا،بينما لقى3800مهاجر حتفهم فى عرض البحر،"وفق إحصائيات المنظمة الدولية للهجرة لعام2015"،بينما توفي30.510 أشخاص في البحر بين عامي2014 و2018،وفقًا لتقرير المنظمة الدولية للهجرة الصادر عام2019.

وهناك2.5مليون مهاجر تم تهريبهم بطريقة غير مشروعة مقابل5مليارات دولار خلال عام2016فقط،بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الصادر عام2018.

ووفق ما أكد لنا وديع الأسمر رئيس المركز اللبنانى لحقوق الإنسان،فإن كارثة انفجار مرفأ بيروت ساهمت فى زيادة رحلات الهجرة العشوائية بشكل كبير،فى ظل تدهور الوضع الاقتصادى، وتنطلق الرحلات أسبوعيا من طرابلس حيث الأوضاع المعيشية المتردية، وينطلقون من شاطئ الميناء.

وأشار الأسمر إلى أن هذه الأزمة ليست وليدة اليوم،ففى عام2015كانت تكلفة رحلة الموت تتراوح بين الـ1300 و2500دولار،حيث تختلف الأسعار بحسب ضمانات الوصول بسلام للشواطئ الأوروبية،فإذا دفعت مبلغا أقل فهذا يعنى أن المركب لن يصل بك للشاطئ تماما،بل سيتوجب عليك السباحة فوق ما يشبه قطعة الخشب لبعض الوقت للتخفى عن أعين خفر السواحل حتى تصل للشاطئ،وتعتبر أوروبا خاصة ألمانيا هدفا رئيسيا لهؤلاء بعد عبور تركيا واليونان ومن ثم هنجاريا،وقد يتعرضون لخطر إطلاق النار من قبل شرطة السواحل بداعى التسلل لدخول تلك الأراضى. الجديد فى الأمر هو محاولة اللبنانيين المهاجرين الوصول إلى شواطئ قبرص التى تسعى للحد من هذه الظاهرة التى تُسبب لها قلقا كبيرا،وفى سياق تلك المساعى زار وفد قبرصى رسمى بيروت مؤخراً،طلبا لإيقاف تدفق قوارب المهاجرين.

قوانين تُجرم الاتجار بالبشر 

 

 وصف الناشط والمحامى اللبنانى بمجال حقوق الإنسان ميشال نعمة الوضع الحالى بـ«الكارثى»،فالأوضاع المعيشية تزداد ترديا،وأصبحت العديد من الأسر تنظر للهجرة على أنها بديل منطقى للموت الحتمى جوعاً،وقرب المسافة إلى قبرص يجعلها خيارهم الأول،وبحسب القانون اللبنانى يقع هذا ضمن أشكال"الاتجار بالبشر"المعاقب عليها بالمادة586عقوبات،لأن هناك تجارا يستغلون الضائقة المالية للناس ويحاولون إغراءهم بوعود وهمية،عبر رحلات لا تُراعى شروط السلامة العامة للإنسان فتقودهم للموت.

وأوضح نعمة أن تهريب المهاجرين يشير إلى وجود شبكات إجرامية منظمة ومعقدة تتعاون مع شبكات مماثلة بدول أخرى.

أضاف نعمة،أن الوضع الاقتصادى المتردى أسهم فى انتعاش تلك الجرائم، ولبنان من الدول الثلاث الأساسية التى وضعت الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عام1948،إضافة لبروتوكول الأمم المتحدة عام2000،لمكافحة تهريب البشر،ولبنان ملتزم بمنع الهجرة العشوائية،وعلى قوى الأمن والجيش ملاحقة المجرمين وتطبيق قانون العقوبات وتنظيم حملات توعية.


 احد الناجين من قارب الموت ابراهيم لاشين

احد الناجين من قارب الموت ابراهيم لاشين
 

قبرص تشدد الإجراءات

لم نحصل على أجوبة من الحكومة القبرصية حول كيفية إدارة الأزمة مع الجانب اللبنانى وما توصلت له المحادثات حتى الآن،وكيف يتم التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين الذين يتم إلقاء القبض عليهم على شواطئ قبرص؟

 قالت لنا ماريا أثناسيادو المحامية بشئون الهجرة فى قبرص،إن"الهجرة غير النظامية"تثير مخاوف المجتمعات الأوروبية،خاصة جنوب أوروبا من بينها قبرص التى أعادت عشرات اللبنانيين واللاجئين السوريين بعد محاولتهم الوصول للشواطئ،وتولى قبرص اهتماما كبيرا بهذا الملف خاصة بعد تفاقم الأزمة اللبنانية خوفا من اندلاع موجة لجوء من لبنان إلى القارة عبر السواحل القبرصية وتبحث مع الدولة اللبنانية أساليب التصدى للأزمة بعد أن اعترضت قبالة سواحلها أواخر أغسطس الماضى5قوارب على متنها بين150و200مهاجرا من لبنان،«وفق تقارير رسمية نُشرت بصحيفة سايبرس ميل القبرصية»ووسائل إعلام قبرصية،سبقها بأيام إعادة 33مهاجرا عشوائيا إلى لبنان كانوا قد وصلوا إلى ليماسول القبرصية مطلع سبتمبر.

 

أحد العائدين من رحلات غير شرعية شمس الدين كردلى
أحد العائدين من رحلات غير شرعية شمس الدين كردلى

 

وأضافت ماريا،أن معدلات الهجرة غير الشرعية ازدادت خلال السنوات الثلاث الأخيرة،فسجل عام2019 رقما قياسيا نتج عنه أكثر من120ألف طلب لجوء لمهاجرين غالبيتهم عن طريق البحر(وفق المنظمة الدولية للهجرة)،وقريبا سينفذ إطار عمل بين قبرص والاتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة غير الشرعية، كما شددت«الداخلية»القبرصية الإجراءات الأمنية على الحدود.


الطفل سفيان الذى اغتالته مياه البحر
الطفل سفيان الذى اغتالته مياه البحر

 

هجرة اللبنانيين

«لبنان بلد هجرة بالأساس،هناك11مليون مهاجر من أصل لبنانى فى بلاد المهجر،وفق إحصائيات غير رسمية،بينما عدد اللبنانيين بالداخل4ملايين نسمة»،هذا ما أوضحته ديانا مقلد الكاتبة والباحثة اللبنانية بشؤون حقوق الإنسان،مضيفةً أن الظاهرة ازدادت فترة الحرب الأهلية واستمرت بعدها، لكنها تفاقمت منذ تدهور الأوضاع الاقتصادية وانفجار المرفأ خاصة من مناطق الشمال مثل طرابلس وعكار وهى الأكثر حرمانًا.

تقول مقلد،إن هذه الظاهرة تنشط فى ظل تفشى الفساد وضعف الرقابة والتواجد الأمنى على شواطئ طرابلس.

كيف يتم التعامل مع المهاجرين؟

عن مصير المهاجرين من لبنان الذين يتم إلقاء القبض عليهم بالشواطئ القبرصية قالت مقلد،إنه وفق تقرير لمنظمة هيومان ريتس ووتش صدر فى سبتمبر2020،فإن السلطات بقبرص تعاملت معهم بشكل غير قانونى ما تسبب فى غرق بعضهم،وهذا مخالف للقوانين الأوروبية.

وعن موقف الدولة اللبنانية قالت:«للأسف أداء الدولة ضعيف ولم يكن بحجم الكارثة فلم تحاول جديا معالجة أوضاع هؤلاء»،مشيرة إلى توقعات بتفاقم الهجرة العشوائية مع استمرار تردى الأوضاع الاقتصادية والسياسية،فأداء الدولة بعد فاجعة بيروت كان صادما.

الحاجة عفاف: ابنى رمى نفسه للموت

..فى دفتر منكسرى القلوب تجد الحاجة عفاف،والدة الشاب محمد خلدون أحد المفقودين من قارب طرابلس،حاملة صورة ابنها بين كفيها طوال الوقت،غالبتها دموعها وهى تقول:«ابنى محمد وحيد على7بنات،وزوجى سواق تاكسى سيارته بالإيجار،ابنى طلع بالبحر على أمل يشتغل ويبعت لأبوه مصارى ليشترى تاكسى،وقالى:«هبعتلك يا أمى مصروفك لتشترى أدوية الأعصاب».

وانهارت الحاجة عفاف وهى تقول:«ابنى رمى نفسه للموت لأنه له3سنين بلا شغل..أنا بدى إياه عايش ولو مات بدى جثته..بترجاكم»!،وناشدت الدولة بالبحث عن نجلها.


والدة أحد المفقودين
والدة أحد المفقودين

تقول شقيقة محمد: «أعطيته سلسة ذهبية ليبيعها ويدفع باقى تكاليف الرحلة،وسلم المصارى لشخص من منطقتنا ثم أخده إلى القارب ومعه ابن عمى وابن عمتى»،مؤكدة أن هذه الرحلات أصبحت تتكرر كثيراً.

وبحسب رواية ليال،فقد تواصل الأب هاتفيا مع السمسار«برهان»ليطمئن على نجله محمد وكان الجواب:«اطمن وصلوا قبرص بس محجورين بسبب كورونا وما معهم تليفونات». ظل السمسار أياما يخدع الأهالى بصور مفبركة لأماكن إقامتهم بقبرص،إلى أن شك الأب فى أمر اختفاء نجله فسارع بالتواصل مع أحد معارفه بقبرص والذى تواصل بدوره مع السلطات المعنية ليؤكد أن القارب لم يدخل المياه القبرصية،ثم تحركت الجهات المعنية بلبنان للبحث عنه،ليتلقى الأهالى بعد أيام نبأ العثور على القارب الذى يحمل أبناءهم بالمياه الإقليمية لكن بينهم متوفين ومفقودين.

أضافت ليال: «الدولة ما اهتمت بالتواصل مع السلطات بالدول الأخرى للبحث عن المفقودين بحدودها،ولا القوات البحرية مهتمة بالبحث..مالناش غير ربنا».

 

قطمات السمك بجسد بطل القارب

إبراهيم لاشين،29سنة،البطل الذى أنقذ حياة بقية العالقين فى البحر على متن قارب الموت،لكن رغبته فى الموت أكبر من رغبته فى الحياة،قال لنا:« اتدَّاينت المصارى وبعت فرش البيت عشان أسافر..بس رحلتنا كانت مع تجار دم،ومع ذلك هحاول أطلع على قارب تانى..لأنى بلبنان أنا عايش ميت فاقد الأمل فى بلدى»!

استكمل إبراهيم،قائلا:«غالبية اللى على القارب استدانوا المبلغ أو باعوا أثاث منزلهم لتأمين المبلغ المطلوب لسماسرة الهجرة..المهربين أخدوا من كل مسافر5ملايين ليرة،وانطلق المركب من منطقة الميناء،كنا 45شخصا على مساحة11متراً،وفور ركوبنا أخدوا منا شناطينا(الحقائب)اللى كان فيها الأكل والميه،بحجة تخفيف الحمولة على المركب،على أساس سنجد مركبا كبيرا على مسافة200متر لنكمل عليه باقى الرحلة،بعدين ضيعنا الطريق وتوهنا».

ابراهيم لاشين الذى انقذ القارب
ابراهيم لاشين الذى انقذ القارب

يستكمل قائلاً:«ضلينا تايهين5أيام فى البحر بدون أكل أو شرب والكبار والأطفال بلشت (بدأت)تموت وقتها قررت أقفز فى البحر وصرت أسبح يومين،كان عندى أمل ألاقى حد ينقذ القارب والحمد لله وجدت قاربا تابعا لقوات اليونيفيل وأنقذونا».

وعن اللحظات المؤلمة التى عاشها هؤلاء على القارب،قال:«كنا بنصارع الموت ومنتظرينه!..اتصدمنا بموت أول طفل وفى اليوم التالى مات طفل تانى،بعدها توالت الوفيات وفقدنا الأمل..صرنا فى المياه من الشمال للجنوب ما فى خفر سواحل وقفنا».

أكد إبراهيم،الذى ما زال يحاول التعافى من الصدمة النفسية وآثار قطمات السمك المتناثرة بجسده،أنه لم يكن خائفا من الموت،قائلاً:«نحن جوا بلدنا بنموت ألف مرة فى اليوم..لى5سنين مش لاقى شغل لأنى مش بنتمى لحزب سياسى،ورغم أن طرابلس فيها أغنى ساسة لبنان، لكن مش لاقيين ناكل،كان الموت وسط السمك المفترس أهون لى من الموت على أيدى السياسيين،وحاولت أنتحر فى البحر3مرات».

أضاف إبراهيم قائلا:«نحن من منطقة القبة والمهربين هم برهان الأطريب ولقبه أبو حمد وأحمد صوفان وعلى على صوفان ولحد هلا ما انكمشوا(لم يتم القبض عليهم).

جروح "الفيحاء" المنسية

«كانت طرابلس أو الفيحاء المدينة الثانية بعد القاهرة فى الآثار المملوكية بل تعاظمت أهميتها فى التجارة الدولية..مع فترة استقلال لبنان،تراجعت أهميتها أمام بيروت حتى أصبحت الأكثر فقرا بلبنان»..بهذه الكلمات بدأ رياض يمق رئيس بلدية طرابلس حديثه لنا،مؤكداً أن الوضع الحالى للمدينة متأزم ومن العوامل التى أدت لهذا،حرب سوريا التى اندلعت منذ5سنوات،فهناك حوالى30كيلومترا من السواحل المشتركة بين سوريا وطرابلس،ودفعت ظروف الحرب بـ50 ألف لاجئ سورى إلى طرابلس،فى ظل إمكانيات محدودة للمدينة،خاصة أن مرفأ طرابلس شبه معطل،لأن سياسة الدولة توجيه الاهتمام لمرفأ بيروت،ثم جاءت جائحة كورونا لتزيد الأوضاع سوءا أعقبها الانفجار ما أدى لتجاوز نسبة البطالة50%.

وعن ظاهرة الهجرة غير الشرعية قال يمق:« لم تكن مكتشفة وكان يقوم بها السوريون،ومؤخرا بعد تفاقم الأوضاع الاقتصادية أصبح اللبنانيون يقبلون عليها، خاصةً بالشمال،وأضاف: «دور الدولة غائب وحجم المعاناة يزداد يوميا،ما أدى لزيادة نسب الطلاق والعنف الأسرى،والهجرة غير الشرعية، فقد سبق الحادث الأخير بيومين إيقاف زورق يحمل 80مهاجراً.

 أشار"يمق"إلى أن الجيش وخفر السواحل المنوط بهما ضبط عمليات التهريب،ولكن يصعب التحكم فيها لأن الزوارق تنطلق من مرافئ الصيادين وهى غير مراقبة،فسواحل طرابلس الممتدة مع سوريا مهجورة لا يوجد بها أمن عام أو خفر وهى ذات السواحل التى يتم عبرها تجارة البشر وتهريب الأغذية وغيرها.

وبالنسبة للأوضاع الصحية،قال إن«كورونا»متفشية فى ظل وجود مستشفى حكومى واحد للمصابين.

الشمال المُهمل!

النائب السابق عن مدينة طرابلس مصباح الأحدب،أكد أن شمال لبنان مُهمل ولا يوجد به الحد الأدنى من الخدمات،حتى إن طرابلس لم يكن لها نصيب من خطة المجتمع الدولى لإعادة نهضة لبنان والتى أطلق عليها«سيدر»، ولم تُوضع على خريطة المشروعات السياحية من قبل الشركات المكلفة من الدولة لإعداد خطة نهضة سياحية،رغم أنها غنية بالآثار البيزنطية والفاطمية والمملوكية،ففى الشمال فراغ سياسى وتعتبر القوى السياسية«طرابلس»منطقة عسكرية تُدار عبر مجموعات مسلحة تابعة لهم.

 

إنفو جرافيك يوضح حجم كارثة الاتجار بالبشر عبر رحلات بحرية وهمية -إعداد كاتب التحقيق
إنفو جرافيك يوضح حجم كارثة الاتجار بالبشر عبر رحلات بحرية وهمية -إعداد كاتب التحقيق

 

وأضاف الأحدب،أن إهمال المدينة ساعد على نشاط«تجار الدم»المنظمين لرحلات الهجرة غير الشرعية،بغطاء من بعض السياسيين،حيث يخدعون الشباب ويحصلون منهم مبالغ مالية مقابل تأمين الرحلة«الوهمية»،ثم تنتهى علاقتهم بهؤلاء الشباب بمجرد نزولهم القارب ليفاجأوا بأنه يفتقر للحد الأدنى من التجهيزات يحدث هذا فى ظل غياب رقابة الدولة.

 وكشف الأحدب،أن هناك تدخلات لسفارات بعض الدول الأوربية لدفع الدولة اللبنانية بالعمل للحد من هذه التجارة وتضييق الخناق على القائمين عليها.

 

الرقابة على الشواطئ

 قوى الأمن الداخلى والأمن العام والقوات البحرية ومديرية التوجيه التابعة للجيش اللبنانى ليس لديهم إحصائيات كافية عن الهجرة غير الشرعية بلبنان،كما لم نحصل على إجابات واضحة حول بعض الأسئلة من بينها أسباب عدم وجود مراقبة ونقاط تفتيش على بعض المناطق بالشواطئ اللبنانية.

أكد لنا مصدر أمنى مسؤول بلبنان،أن قوى الأمن اتخذت الإجراءات اللازمة بملاحقة المتهمين فى حوادث قوارب الهجرة،ونجحت فى إلقاء القبض على عدد من سماسرة رحلات طرابلس،كما تم إيقاف وإفشال مخططات مجموعة من التجار أثناء تجهيزهم لعدد من الرحلات العشوائية،وخلال أغسطس الماضى عقب الانفجار تم إيقاف4رحلات عشوائية.

وأكد المصدر،أن ظاهرة الهجرة غير الشرعية طفت على السطح بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية،و تندرج تحت«الاتجار بالبشر»ولدى الأمن الداخلى إدارة مستقلة لمكافحة هذا النوع من الجرائم.

وعلى الرغم من إشارة المصدر لأهمية وحدة مكافحة الاتجار بالبشر بـ"الأمن الداخلى"، إلا أنها لم تقم فعليا بمهام للقضاء على هذه الجرائم وليس لديها إحصائيات واضحة عنها ومن بينها الهجرة غير الشرعية.

وللحد من هذه الجريمة قال،نبحث تشديد الدوريات على الشواطئ ومرفأ طرابلس،ولكن هناك مساحة كبيرة من الشواطئ يصعب مراقبتها وتأمينها،خاصة أن هذه العمليات تتم عبر مرافئ الصيادين.

 

قائد القوات البحرية اللبنانية العقيد الركن هيثم الضناوى
قائد القوات البحرية اللبنانية العقيد الركن هيثم الضناوى

 

أكد لنا قائد القوات البحرية اللبنانية العقيد الركن هيثم ضناوى،أن رحلات الهجرة غير الشرعية تُعد التحدى الأكبر لما تطلبه من سرعة التحرك فى جميع الظروف المناخية،وقد ازدادت بشكل كبير بعد الانفجار،وقد تمكنت القوات البحرية من ضبط حوالى20مركبا وتوقيف596شخصا منذ أغسطس حتى أول نوفمبر2020،وعملت البحرية على تكثيف دورياتها لمراقبة الشواطئ والمياه الإقليمية، وجميع عمليات الدوريات مدعومة بشبكة رادارات بطول الشاطئ،ويتم جمع المعلومات الأمنية عن عمليات التهريب بشكل مستمر،فتم مؤخرا إحباط5عمليات تهريب للبشر عبر زوارق متهالكة،وتتعقب الأجهزة الأمنية التجار والسماسرة الذين يسهلون هذه الأنشطة التى تعرض حياة الناس للخطر على متن قوارب تفتقر لشروط السلامة،ويتم توقيفهم وتسليمهم للسلطات.

أكد ضناوى،أن لبنان كغيره من البلدان يواجه تحديات تتعلق بمراقبة الشواطئ وحماية المياه الإقليمية وتعقب عمليات تهريب البشر،والمسؤولية مشتركة بين القوات البحرية وعدد من الجهات المعنية،إضافة لتكثيف الدوريات فى المياه بحثا عن المفقودين.

كيف تدعم الأمم المتحدة لبنان لمواجهة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية؟

 

كريستينا ألبرتين،الممثلة الإقليمية لمكتب الأمم المتحدة المعنى بالمخدرات والجريمة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أوضحت أن الهجرة غير الشرعية شكل من أشكال الاتجار بالبشر والذى يعنى تجنيد الأشخاص أو نقلهم تحت التهديد والاحتيال،بغرض الاستغلال الجنسى أو السخرة،وفى لبنان يعد الاستغلال الجنسى والمالى أكثر أنواع الاتجار شيوعا، وتتعدد الاتفاقيات والبروتوكولات المتعلقة بجريمة الاتجار بالبشر فى إطار القانون الدولى.

تقول"ألبرتين"،إنه لم تتوفر حتى الآن إحصائيات عن الهجرة غير شرعية لعام2020،وذلك بسبب الصعوبات التى تواجه الدول نتيجة تفشى كورونا،وبالنسبة لدور الأمم المتحدة فى مكافحة هذه الجريمة،فإن المكتب يدعم الدول فى تنفيذ بروتوكول تهريب المهاجرين وجهود الحكومات فى التحقيق بحالات التهريب والتصدى للشبكات الإجرامية الدولية التى تجنى أرباحاً طائلة من تلك التجارة،فضلاً عن دعم الدول الأعضاء بتوفير السبل اللازمة لتقويض تلك الجريمة،كما نقوم بمساعدة الضحايا ودعمهم،وتعزيز التعاون الدولى جنائيا بين الدول الأطراف لتقديم الجناة لمحاكمة،والعمل على تفعيل بروتوكول الأمم المتحدة لمعاقبة تجار البشر.

 

الممثلة الإقليمية لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة
الممثلة الإقليمية لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة

 

وأضافت:"حماية حقوق المهاجرين المهربين وسلامتهم فى صميم استجابتنا".

 بالنسبة للبنان،تقول ألبرتين:«إن الصعوبات الاقتصادية تجعل المرء أكثر عرضة للاستغلال،وقانون مكافحة الاتجار بالأشخاص فى لبنان رقم164لسنة2011يُجرم الاتجار بالبشر لأغراض الاستغلال الجنسى والعمل الجبرى وغيرها،كما تنسق اللجنة التوجيهية الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص جهود مكافحة الجريمة،ومكتبنا يزود لبنان بالدعم الفنى لتطوير التشريعات لمكافحة الظاهرة وتحسين تدابير الحماية وتعزيز قدرة«العدالة الجنائية»،كما سننفذ قريبا مشروعا بتمويل سويسرى لدعم جهود الدولة اللبنانية لتحديد حالات الاتجار بالبشر،والتحقيقات الخاصة بذلك.

وتوضح أن الأمم المتحدة تدعم جهود لبنان فى التحقيق فى حالات تهريب المهاجرين ومكافحة الأعمال غير المشروعة لكيانات الإجرام العابر للحدود،ونعمل مع وكالات أممية وشركاء محليين لتقديم الدعم الفنى للسلطات فى اعتماد الإجراءات لتحديد الضحايا ودعمهم.

 

لا تزال التحقيقات جارية فى حوادث الهجرة غير الشرعية..وسط شكوك بوجود غطاء من المسؤولين بالدولة اللبنانية لتجار الدم..فهل تتخذ الجهات المسئولة إجراءات حاسمة تنقذ الباقين من براثن البحر؟

 

 

bfa579eb-e96f-44fe-8c07-fcb106d538fa

فى الحلقة القادمة 

صحة لبنان فى"الإنعاش"

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة