سوابق عدة تشهدها الانتخابات الأمريكية هذا العام، في ضوء صراع يبدو الأشرس في تاريخ الولايات المتحدة منذ سنوات وعقود طويلة، تخلله حروبا، لم تقتصر في أبعادها على الدعاية، وإنما سبقت ذلك، منذ بداية ولاية ترامب الأولى، بين الرئيس الجمهورى، وخصومه الديمقراطيين، لتتخلى الولايات المتحدة عن عرسها الأنيق، الذى طالما استعرض فيه المرشحون ولائهم لمبادئ الديمقراطية وقبول الأخر، إلى ما يشبه "حرب تكسير العظام".
ولعل أهم سمات الاختلاف في الانتخابات الأمريكية عن سابقتها، لا يقتصر على مجرد تبادل الاتهامات، والذى يعد أمرا معتادا في ظل حمة المنافسة، وإن كان بصورة تبدو أقل حدة بكثير مما هي عليه هذه المرة، وإنما في تداعيات ما بعد "المعركة"، ليبقى التساؤل حول ما إذا كانت واشنطن سوف تحتفظ بصورتها كـ"واجهة العالم المتحضر"، في أعقاب الإعلان عن الرئيس الأمريكي الجديد أم أن الأمور ستشهد اختلافا جذريا في مرحلة ما بعد الانتخابات عما قبلها.
وللحقيقة أن انتخابات الرئاسة في 2016، كانت بمثابة مقدمة مهمة، لما آلت إليه الأمور في الانتخابات المرتقبة بعد ساعات، في الولايات المتحدة، في ضوء بروز ما يمكننا تسميته "ظاهرة" ترامب، والتي طغت بخطابها الشعبوى، غير المعتاد على الواقع الأمريكي، لتثير أبعادا لم تكن ظاهرة في الشارع السياسى بالولايات المتحدة، والذى اعتاد على الخطابات النمطية، ذات الوعود البراقة، والتي لم يكن يتحقق أغلبها، وتحقق انتصارا، تجاوز المنافسة المعتادة بين الحزبين الأمريكيين الرئيسين، وإنما كان بمثابة انتصار على السياسة والوجوه التقليدية، والأفكار النمطية في الشارع الأمريكي، والذى لم تتجاوز طموحاته وعودا اقتصادية وصحية، بينما كانت الثوابت فيما يتعلق بالعلاقات الدولية والمزايا الاقتصادية للخارج وقبول المهاجرين، لم تتغير في الخطاب السياسى، وبالتالي احتفظت ببقائها على أرض الواقع.
التغيير الكبير في شكل "العرس" الأمريكي، كانت نقطة الانطلاق لتغيير أوسع، في ظل استباق الحدث الانتخابى، بالتشكيك في نزاهته سواء من هنا او هناك، مرورا باللجوء إلى القضاء، والاتهامات المتبادلة بالتخوين، وحتى التهديد في بعض الأحيان باستخدام العنف، حالة خسارة هذا المرشح أو ذاك.
وعلى الرغم من أن كل الأوضاع الراهنة التي هيمنت على الأجواء الانتخابية، في الولايات المتحدة، حملت مقدمات في 2016، سواء في المظاهرات الغاضية التي ملأت الشوارع أعقاب الإعلان عن فوز ترامب، مرورا بحالة الفوضى التي شهدتها العديد من الولايات، وحتى المحاولات المتواترة لعزل الرئيس، من قبل خصومه في الكونجرس، إلا أن تأجج الحرب الكلامية بين المتنافسين وحالة الاحتقان، ربما تنذر بتغيير جذرى في المشهد الديمقراطى وربما الحزبى في الولايات المتحدة في خلال سنوات قليلة.
ربما تكون هناك عوامل أخرى تبدو مساهمة إلى حد كبير في تغيير شكل الانتخابات الأمريكية، وابتعادها عن "أناقتها" المعهودة، وعلى رأسها تفشى فيروس كورونا، والذى يعد بمثابة "شهادة وفاة" الديمقراطية بمفهومها التقليدي، خاصة مع نجاح الصين، والتي تنظر إليها واشنطن دائما باعتبارها نموذجا للديكتاتورية، في احتواء الفيروس رغم كونها نقطة انطلاقه، مما ساهم في تقويض قطاع كبير من مواطني الغرب، وفى القلب منهم الأمريكيين أنفسهم إلى ما يمكن تسميته بـ"الكفر" بالمبادئ التي طالما تشدقوا بها، إلا أن الحقيقة المؤكدة أن منارة الغرب الديمقراطى لم تعد كما كانت مهما كانت النتائج التي ستؤول لها الانتخابات الأمريكية.