استدعى الوالى سعيد باشا، صديقه الفرنسى «فرديناند دى لسيبس» إلى القلعة يوم 25 نوفمبر 1854، وفى مجتمع من القناصل العامين والوجهاء أعلن على رؤوس الأشهاد عزمه منح امتياز له بتأسيس شركة مساهمة، لإبراز مشروع حفر قناة السويس إلى الوجود، وفقا للدكتور مصطفى الحفناوى فى الجزء الأول من كتابه «قناة السويس والمشكلات المعاصرة»، مضيفا: «فى 30 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1854 وقع سعيد باشا عقد الامتياز الأول، فأحدث بذلك أكبر انقلاب عرفه التاريخ فى القرن التاسع عشر».
يؤكد «الحفناوى»، أن سعيد باشا الذى كان فى الثانية والثلاثين من حياته «لم تكن معه عصبة من الرجال ذوى العقول، عصبة تدرك حقائق الأشياء، بل فئة من أشباه الأميين، سيطر عليهم دى لسيبس بألعابه وحيله».. يضيف: «الذى لا مراء فيه أن دى لسيبس خدع سعيد، وألقى فى روعه أن المشروع يهدف الخير لمصر ورفاهيتها».
ينشر «الحفناوى»، النص الكامل للعقد ضمن ملاحق كتابه، ويناقش بنوده من الناحية السياسية والقانونية، ويبدأ العقد بديباجة تقول: «حيث إن صديقنا مسيو فرديناند دى لسيبس قد لفت نظرنا إلى الفوائد التى قد تعود على مصر من توصيل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر بواسطة طريق ملاحى للبواخر الكبرى، وأخبرنا عن إمكان تكوين شركة لهذا الغرض من أصحاب رؤوس الأموال فى جميع الدول، فقد قبلنا الفكرة التى عرضها علينا، وأعطيناه بموجب هذا تفويضا خاصا لإنشاء وإدارة شركة عالمية لحفر برزخ السويس، واستغلال قناة بين البحرين وله أن يباشر أو يسند إلى غيره جميع الأشغال والمبانى اللازمة لذلك، على أن تدفع الشركة إلى الأهالى، وقبل البدء فى الأعمال، جميع التعويضات فى حالة نزع ملكية أملاكهم للمصلحة العامة، وذلك كله فى الحدود وطبقا للشروط والالتزامات المبينة».
يتناول «الحفناوى» ديباجة العقد بالتحليل والنقد، ويذكر ملاحظاته عليها، وأبرزها: «لم تذكر لفرديناند دى لسيبس صفة سوى أنه صديق للوالى، ولا يجوز أن يمنح امتياز ضخم كهذا لعابر سبيل، دون أن يكون ممثلا لشخصية معنوية كبيرة كمؤسسة صناعية، تكون موجودة قبل الامتياز، ويروى بعض الثقاة أن دى لسيبس قبل حضوره إلى مصر، حصل على تفويض من جماعة «سانت سيمونيان» ليطلب الامتياز لحسابهم، ولكنه أهملهم واشتغل لحسابه».
يضيف الحفناوى، ملاحظة ثانية، قائلا: «يدمغ هذا الامتياز أنه وليد نفوذ شخصى، وما أقبح ما يبرم من العقود على أساس النفوذ والجاه، خاصة أن دى لسيبس لم يكن مهندسا ولا رجل صناعة، أو رجل مال أو أعمال».. ويذكر ملاحظة ثالثة: «أعطت الديباجة لديلسيبس سلطة عجيبة، وكأنه دولة داخل الدولة أبيح له أن يكون ديكتاتورا لا معقب عليه، إذ قالت: وله أن يباشر أو يسند إلى غيره جميع الأشغال والمبانى اللازمة لذلك».
يذكر الحفناوى، أن الفرمان تضمن بعد الديباجة اثنى عشر بندا كلها أعاجيب ومخالفات، وفى ختامه تعهد سعيد باشا بأن يقدم ورجال حكومته كل معونة تلزم لنفاذ هذا المشروع، وأرفق سعيد هذا الفرمان بكتاب وجهه إلى «دى لسيبس» ذكر له فيه صراحة أن ما جاء فيه معلق نفاذه على موافقة الباب العالى، ويؤكد الحفناوى، أنه من الثابت أن دى لسيبس نفسه هو الذى أوحى بنصوص الفرمان، واشترك فى الصياغة، ودليل ذلك رسالة صادرة منه حررها فى 30 نوفمبر 1854 إلى صهر له يدعى «فيكتو لامال» يقول له فيها، إنه هو الذى همس فى أذن الأمير أثناء محادثاتهما بعبارات ذلك الفرمان، وأنه صاغها على الورق طبقا للخطة التى رسمها، وأنه هو الذى أكثر من ترديد العبارات فى أذن سعيد.
فى يوم 23 ديسمبر 1854 سافر دى لسيبس من القاهرة إلى السويس، وفقا للحفناوى، مضيفا: «كان فى صحبته اثنان من المهندسين الفرنسيين من موظفى الحكومة المصرية وهما «لينان بك» و«موجيل بك»، وذلك للقيام بأعمال الكشف اللازمة فى برزخ السويس، وليضع دى لسيبس يده على الأرض، قبل أن تأتى موافقة الباب العالى، بل وقبل أن تتكون الشركة المزمع إنشاؤها، ويظهر أن هذا التجاوز للأصول كان نتيجة مباشرة لنيشان «الليجيون دونير» الذى منحه الإمبراطور نابليون الثالث لسعيد باشا فى اليوم السابق على هذه الرحلة، أى فى يوم 22 ديسمبر سنة 1845، واستمرت الرحلة حتى منتصف يناير سنة 1855، وكان الغرض منها فحص الطبيعة من جديد وعمل المجسات اللازمة».
فى 5 يناير 1856 تحرر فرمان ثان، وكان «أشد وطأة على مصر وقيدها بأغلال ثقال» بوصف الحفناوى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة