يقف حسن أرابيسك "صلاح السعدنى" شامخاً ويحكى باستفاضة عن تاريخ مصر الحقيقى، لم يهمه الكارثة التى تحيط به بعد هدم فيلا الدكتور برهان العالم المصرى الذى عاد من أمريكا ويريد تجديد معمار فيلته فى تحفة فنية تحاكى تاريخ مصر كله، ترك كل ذلك وظل يخطب أمام المساجين قائلاً : الترقيع ما ينفعش، البزرميط ماينفعش، والفن الحقيقى مش طبيخ، وعشان نمثل تاريخ مصر الحقيقى الطويل الحائر بين الفرعونى والرومانى والقبطى والإسلامى إلخ ، لابد أن نعرف متى كانت مصر هي "مصر بذات نفسها"، "مصر بحق وحقيق"، وحين نعرف ذلك سنعرف من نحن "ولمّا نعرف احنا مين هنعرف احنا عايزين ايه".
هذا المشهد العبقرى لصلاح السعدنى فى مسلسل "أرابيسك" للكاتب الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة، يقودنا إلى عدة أسئلة أهمها : أين نحن المصريين من معرفة تاريخ بلدنا؟.. كيف نستفيد من المعالم الأثرية فى استقطاب السياح؟.
هذه الأسئلة لا تحتاج إلى إجابات، بل تحتاج إلى ضرورة العمل على أرض الواقع، فالمعالم الأثرية تلعب دورا أساسيا فى الترويج للسياحة لاسيما عشاق التاريخ الذين لهم ثقافة الاطلاع على حضارات قديمة.
هنا يحضرنى مشهد إصرار الدكتور جمال عبد الرحيم أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية بكلية الآثار جامعة القاهرة على النزول دائمًا مع تلاميذه فى المناطق الأثرية لتعريفهم بالتاريخ الحقيقى لمصر على أرض الواقع دون النظر إلى الجهد المبذول والتعب البدنى من النزول إلى المناطق الأثرية بشكل دورى، خصوصاً أنه يرى أن هذه الطريقة هي الأمثل لمواجهة طيور الظلام الذين يعبثون فى أفكار ولادنا لتحقيق أغراضهم الشيطانية حتى يخلقون إرهابيون يقتلون الناس دون وجه حق.
هنا أتذكر مشهد حسن أرابيسك حينما كان يصرخ وتسبقه دموعه حزناً على مقتل "شقشق" صبى الورشة على يد الإرهابيين ويتساءل: ما ذنبه؟.. هل كان كله ذنبه التزامه وحرصه على مساعدة والده العجوز من أجل تربية أشقائه الصغيرين؟
حسن أرابيسك ظل طوال أحداث المسلسل متمسكاً بتعليم المهنة التى ورثها عن والده وأجداده إلى الأجيال الجديدة حتى لا تندثر ويعلم الجميع تاريخ مصر القديم حتى ينقذ الاجيال الجديد من الفكر الإرهابى، ونفس الشيء يفعله الدكتور جمال عبدالرحيم فهو لا يكتفى فقط بدوره كعاشق لمهنته داخل حدود الجامعة، إلا أن يقف مستمتعاً بالشرح وتوضيح التاريخ الحقيقي لمصر، وهو ما لمسته خلال ذهابى معه برفقة زوجتى وابنتى لينا فى إحدى الجولات قبل 4 سنوات، ليس هذا فحسب بل إنه يشارك مع "جروب" دائم من مجموعة محبة للمناطق الأثرية من أبنائه القدامى الذين تتلمذوا على يده.
تنتقل الدكتورة ممتاز محل إلى السكن فى حارة شعبية خلال أحداث مسلسل "أرابيسك"، وتمسك بورقة وقلم لتسجيل الكلمات العامية غير الدارجة فى اللغة العربية، وتظل تسأل حسن النعمانى عن معانيها.. فلم يمنعها علمها فى مجالها من النزول بنفسها للتعلم من آخرين.
وأهم ما لفت انتباهى فى الجولات التى يقودها الدكتور جمال، اثنان وهما الدكتور محمد الباز "استشارى أطفال" ، والدكتور مصطفى الصادق "استشارى أمراض نساء وتوليد" اللذان لم تمنعهما مهنتهما من عشقهما لمعرفة كل كبيرة وصغيرة عن المعالم الأثرية والاستماع الجيد لأستاذ الآثار أثناء الشرح، وتسجيل كل تلك اللحظات بالكاميرا الخاصة بهما، فإذا دخلت إلى منزل الدكتور الباز فستجد المعنى الحقيقى لعشق التاريخ، وإذا قررت دخول الصفحة الشخصية للدكتور الصادق على موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" فلن تصدق أنه مجرد طبيب، فصفحته عبارة عن صور ومنشورات تحاكى تاريخنا وآثارنا.
إذن التعلم من نماذج حقيقية تعيش بيننا، ليس مرتبطاً بالعمر أو الزمان أو المكان، فحب العلم مثل الموسيقى وكرة القدم وأى هواية أخرى، فنحن نحتاج التعلم من تجارب هؤلاء.. ونحتاج أن نعرف أكثر عن تاريخ بلدنا.. ونحتاج الاستفادة أكثر من المناطق الأثرية فى الترويج للسياحة.
الدرويش يهرول فى كل الاتجاهات ومبخرته فى يده ويصرخ بأعلى صوته: "حسن راجع، حسن جاى".. ثم يظهر صوت الراوى ويقول: "اللى بيدخل خان دويدار دلوقت لازم يسأل على ورشة المحروسة لحسن فتح الله النعمانى".. ثم تخرج طفلة صغيرة من الورشة، ويسألها الراوى: "الله وانتى مين ياشاطرة".. ترد الطفلة: "أنا دنيا بنت حسن أرابيسك وماما توحيدة".. فيسألها :"اتولدت امتى؟".. فترد: سنة 94.. ويتعجب الراوى: "هو أنا ساعتى مأخرة، إحنا دلوقت سنة كام؟».. تضحك الطفلة: "إحنا عام 2002، هو أنت نايم؟".
هنا يأتى صوت ابنتى الصغيرة "لينا" وهى تسألنى: بابا هو فين بيت الأمة؟.. وعايزة أعرف هو مين سعد زغلول؟.. فحكيت لها على عجلة قصة الزعيم الراحل.
حينما جلست مع نفسى وجدتنى أكرر نفس مشهد الختام فى مسلسل أرابيسك وأتساءل: إيه ده هو الزمن جرى بيا كده والعيال كبرت قبل الأوان ولا إيه؟"، وفى هذه اللحظة تحديدًا أيقنت أنه حان وقت وضع خطة محددة من أجل أن تعرف "لينا" تاريخ مصر، ولا أكتفى بشرح سريع ، فلا يجب أن نستسلم لفكرة ترك أبنائنا لتعليم المدارس فقط.
الأيام التى نعيش فيها حاليًا تختلف جذريًا عما كنا نعيشه وقت الصبا ، فنحن تعلمنا القيم والتقاليد من آبائنا وأجدادنا، مما وضعنا على الطريق الصحيح، وللحقيقة لم نكن نتعرض لمخاطر كثيرة على عكس الجيل الحالى الذى يتعرض لأكبر حرب أمام «غول» اسمه التكنولوجيا التى اغتصبت العقول.. إذن يجب علينا حماية أبنائنا بالعلم عبر التاريخ..
"ويرفرف العمر الجميل الحنون.. ويفر ويفرفر فى رفة قانون.. وندور نلف ما بين حقيقة وظنون".. ويرفرف العمر الجميل الحنون.. إن درت ضهرك للزمن يتركك.. لكن سنابك مهرته تفركك.. وإن درت وشك للحياة تسبكك.. والخير يجيك بالكوم وهمك يهون"، بهذه الكلمات للكاتب الكبير الراحل سيد حجاب، كان يختتم مسلسل "أرابيسك" أحداثه يوميًا، وهى بطبيعة الحال تؤكد أنه إذا لم نتعلم من حكاوى ونماذج الزمن الجميل، فلن نتمكن من جنى ثمار النجاح فى المستقبل.
هنا أؤكد أنه مثلما علمتنى أمى صغيرًا معانى كثيرة ظلت سلاحى فى الحياة، وكل فرد منا بكل تأكيد لديه ذكرى وأشياء شكلت وجدانه منذ نعومة أظافره، فيجب أن ننقل هذه الخبرات إلى أبنائنا، ومن هنا فإن البيت هو المسؤول الأول والأخير عن تكوين المجتمع الصغير وصناعة أجيال جديدة تستطيع بناء مستقبل جيد لبلدنا، وتتصدى بقوة لأكاذيب "السوشيال ميديا" التى تلعب فى العقول لتدمير الصغير قبل الكبير.
الخلاصة تقول: يجب استعادة تاريخ بلادنا لأنه سلاح ولادنا .. الرجوع إلى الأساليب القديمة للآباء والأمهات فى التربية وتعليم أبنائنا أمر ضرورى لأنه هو الحل الأمثل للتغلب على المخاطر التى تحيط بهم.. ربنا يحفظ بلادنا وأولادنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة