لم يخش الدكتور سعد الدين هلالي أستاذ الفقه بجامعة الأزهر، مواجهة تيارات الإسلام السياسي وجها لوجه في ذروة صعودهم السياسي بعد ثورة 25 يناير 2011، فأصدر دراسة موسعة بعنوان" الإسلام وإنسانية الدولة"، لتكون وثيقة فقهية للرد على قضايا شائكة، خلط فيها الإسلامويون بين الدين والسياسة، وقاموا بتوظيف الدين لخدمة أهدافهم ومصالحهم السياسية.
يبدأ الدكتور هلالي كتابه بمدخل تاريخي مهم يؤكد فيه أن الدولة هي الأسبق في التاريخ الزمني للإسلام، وأن الدولة هي الحاضنة للدين وأهله على اختلاف مللهم ومذاهبهم، وأن الرسول ترك الأمر من بعده(يقصد الجانب السياسي وإدارة الدولة) فلم يستخلف أحدا، لتستقر فكرة إنسانية العدل والحكم، ويرفع الأوصياء أيديهم عن الناس، ليختاروا الأسلوب والنظام المناسب لحياتهم.
إن الدين-كما يشير الكتاب، يقوم بالإنسان وقد أعطاه الله حق الاختيار، كما في قوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " (البقرة:256). كما أن العلاقة بين صاحب الدين والإنسان، تقوم على المشاركة، فإذا كانت حصة صاحب الدين هي النصوص، فإن حصة الإنسان الفهم.
ومن وظائف الدين إرشاد الإنسان إلى التعامل مع الآخر ذكرا أو أنثى، مسلما أو غير مسلم، عربيا أو غير عربي، أبيض أو أحمر أو أسود، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13).
في فترة المزايدات باسم الدين، رفع الإسلاميون قضايا قديمة جديدة ليستدلوا بها على وجهة نظرهم في إدارة شؤون البلاد والعباد، ومنها الحاكمية في الأرض، ويرى الدكتور هلالي أن النصوص القرآنية تأمر بحكم الله وهو العدل، والحكم بالعدل يختلف عن الحكم بالدين في تفاصيل الشريعة، لأن الحكم بالعدل يتعلق بالغير، ويقوم على الترضية الإنسانية، أما الحكم بالدين، فيتعلق بالنفس، ويتشمل على تفاصيل المسائل في العبادات والمعاملات.
ومن أهم الفصول التي تناولت الرد على قضايا جدلية" الفصل الثالث عن شبهات تعارض الدين والدولة"، وفيه بين الفقيه إمكانية تعايش الدين في كل دولة، وأن الإسلام لا يطلب من الدولة سوى العدل الإنساني، يبين الدكتور هلالي أن الخوارج وغيرها من الجماعات والحركات عندما رفعت شعار "الحاكمية لله"، أرادت إحداث فتن، وإسقاط نظام الحكم، كما أن إحياء هذا المفهوم في القرن العشرين على يد أبي الأعلى المودوي وسيد قطب وما تلاهما من جماعات جهادية، كان بهدف إقصاء الآخر داخل الدولة المسلمة.
إن هذا الكتاب كنز فقهي و رد علمي بالأدلة والبراهين على ضلالات تيارات الإسلام السياسي، ومحاولة للوقوف على إنسانية الإسلام، بما يحول دون السلطة الدينية، كما يبين المؤلف أن التعددية الفقهية أظهرت سماحة الإسلام، فلماذا يريدها البعض رأيا واحدا محتكرا على فرد أو مؤسسة، مغلقا باب الاجتهاد على الآخرين، بل يسعى البعض لجعل الفتوى التي هي اجتهاد شخص، مساويا للحكم الشرعي، وهكذا يتم الخلط بين المقدس وغير المقدس، ويتحول الجانب الإنساني داخل الأديان إلى كهنوت، مهما ادعى أصحاب هذه التوجهات أنهم ضد الكهنوت والسلطة الدينية. أفلا تعقلون؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة