أزمة غير مسبوقة، تشهدها الولايات المتحدة، جراء رفض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالخسارة أمام منافسه جو بايدن، مما خلق حالة من الارتباك في المشهد الأمريكي في المرحلة الراهنة، مع خروج مئات الألاف من المواطنين الأمريكيين للتظاهر احتجاجا على ما آلت إليه الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في مشهد ربما يكون الأول من نوعه، منذ عقود طويلة من الزمن، لم تقتصر تداعياته على تأخر إجراءات نقل السلطة للفريق الجديد وإنما تمتد إلى ما بعد تولى الرئيس الجديد زمام الأمور في السنوات القادمة.
ترامب سيخرج من البيت الأبيض لا محالة، وبدأ فعليا تجهيز الرأي العام لفكرة انسحابه من المشهد، دون الاعتراف بالهزيمة، فالرجل بطبيعته لا يقبل أن يخرج مهزوما، وبالتالي سيعلن خروجه – وليس هزيمته – احتراما لأمريكا وتقاليدها التي حارب من أجل أن يجعلها عظيمة (بحسب شعار حملته الانتخابية)، وهو ما بدا فعليا في حديثه، على استحياء، عن الخسارة بسبب ما اعتبره "تزوير"، وإن كان قد تراجع بعد ذلك إثر خروج ملايين الأمريكيين لدعمه.
إلا أن الأزمة الحقيقية التي يواجهها جو بايدن ليست في مسألة خروج ترامب، ولكن فيما يمكننا تسميته بـ"مرحلة ما بعد ترامب"، في ظل حالة من التمرد المجتمعى، بين أنصار الرئيس المنتهية ولايته، وهى الحالة التي تشهد انفصالا غير مسبوق عن الواقع السياسى، لتقدم انعكاسا لفجوة عميقة بين الشارع والمؤسسات السياسية التقليدية في الولايات المتحدة، ومن بينها الحزب الجمهورى نفسه، الذى دخل ترامب الانتخابات الرئاسية ممثلا له.
ففي الوقت الذى تخلى فيه الجمهوريون عن ممثلهم في المعترك الرئاسي، بسبب مواقفه المناهضة لتيار "الصقور" وهو التيار الحاكم في الحزب، وهو ما بدا منذ ما قبل الانتخابات، سواء في مواقف شخصية تبناها جمهوريون بارزون، على غرار جون بولتون، الذى شغل منصب مستشار الأمن القومى في عهد ترامب، قبل أن يعزله فيما بعد، عندما أصدر كتابا لتشوية الرئيس قبل الانتخابات بشهور قليلة، أو بعد ذلك في مطالبات بعض حكام الولايات الجمهوريين للرئيس بالانسحاب من المشهد السياسى، رغم إصراره على البقاء.
ولكن رغم تخلى الجمهوريين عن ترامب، خرج الملايين، في انعكاس لحالة جديدة تجسدت في الشارع السياسى الأمريكي، لدعم الرئيس، الذى تحول من مجرد "أكبر موظف" في قصر الحكم، إلى "زعيم" غير تقليدى استطاع أن يتحدى الكثير من الأفكار النمطية التي طالما تبنتها الولايات المتحدة، سواء في الداخل أو الخارج.
وهنا يتجلى التحدى الأكبر أمام بايدن، وهو مدى قدرته على ملء الفراغ الناجم عن خروج ترامب عن المشهد، عبر تقديم حلول غير تقليدية، للأزمات التي تعصف بأمريكا في الداخل، سواء في ظل الانقسام السياسى الراهن، أو تحقيق طفرات اقتصادية ملموسة، بالإضافة إلى قدرته على التغلب على عقبة كورونا، من جانب، أو فيما يتعلق بالمواقف الدولية الأمريكية، والتى أرسى خلالها ترامب نهجا جديدا يقوم على منح الأولوية للمواطن ومصالحه، على حساب المواقف التقليدية التي طالما تبنها واشنطن لحسابات سياسية تتعلق بالصفقات القديمة التي منحتها اعتلاء عرش النظام الدولى.
إرث ترامب هو بمثابة التحدى الأكبر أمام بايدن، فهو لا يستطيع أن يمحى حقبته، التي رسخت في أذهان قطاع أمريكيين كثر، بينما تبقى قدرته على تقديم البديل عبر رؤى غير تقليدية في معالجة أزمات الداخل والخارج.