"الحياة تتشكل من الجد والهزل، الشدة والضعف، الحياة يا سى فرج أحيانا أشوفها غير عادلة، وأحيانا أشوفها من الاتساع الذى يقف أمامه صاحب الأفق الضيق مرتبكا، مما يجعله يتباكى ولا يرى إلا السلبى منها".
يملك الكاتب الكبير محسن يونس منطقًا خاصا به لفن الرواية، تشعر بذلك فى كل أعماله الأدبية، ومؤخرا، انتهيت من روايته "منطق الزهر" الصادرة حديثا عن دار نشر خطوط وظلال للنشر والتوزيع والترجمة، وهى رواية يكمن جمالها فى "بنائها".. فكيف ذلك؟
لا يخفى محسن يونس فى كتابته المستمرة منذ سنوات طويلة تمتد إلى عام 1980 شغفه بالتراث، ولكن تعامله مع التراث يأتى دائما ذكيا، ففى "منطق الزهر" وبدءا من العنوان يتماس فى بنائه مع منطق الطير لـ فريد الدين العطار، ولكن "محسن بونس" لم يقع فى شغف العنوان من فراغ، فمنطق الزهر، يتناسب تمامًا مع موضوع الرواية ومع شخصياته، فنحن فى مواجهة عائلة غريبة جدًا، تتكون من فرج الفوانيسى (لا يزال حتى يومنا هذا يعمل فى ورشة لصناعة الطرابيش ورثها عن جده وأبيه)، وابنه الأكبر محمد رمان (به سذاجة واضحة ولديه اطلاع واسع على الكتب) وابنه الأصغر معروف (لئيم وذكى ولكن ذكاءه لا يساعده أبدًا) وجارتهم الست بسيمة (ليس لديها شىء تخسره، تعيش وحيدة بعدما هاجر أبناؤها).
وغرابة هذه العائلة أنهم يقرأون كتبا تراثية فى مقدمتها "الفرج بعد الشدة" لـ التنوخى، ثم يصدقون ما فيها، ويفكرون على نفس طريقة الحكايات، يحلمون وعيونهم مفتوحة بالثراء المفاجئ الذى ينزل عليهم من السماء أو يخرج لهم من باطن الأرض، لكنهم عادة ما يشتبكون مع أحلامهم، يفسدونها بأيديهم، ويعودون إلى نقطة الصفر، ونقطة الصفر هذه أن يجلس فرج الفوانيسى على سريره وبالقرب منه يجلس الجميع، كل ذلك فى بيت غريب لا يقل غرابة عن سكانه القليلين، بيت متفرد فى حوادثه وحكاياته سكنته آلاف الطيور حفرت فى جدرانه أعشاشها حتى كاد يخر ساقطا.
نوعا ما سنجد محسن يونس وقد أخذ بأيدينا وذهب إلى فن المقامات، وقدم لنا حكاية بها حس كوميدى معاصر، ولدينا شخصيات نلحظ فى تصرفاتهم نوعا من "الخبل" وحتى الشخصيات الثانوية التى تظهر وتختفى فى الحكايات هم "كركترات" بالفعل تكفى شخصية "حمامة" مربى الحمام، أو حتى شخصية "سعد زغلول باشا" الذى يطل علينا فى الرواية، مرورا بالحكايات المتواترة لأعمام فرج الفوانيسى، لنعرف مدى الغرابة التى نجدها فى الرواية، لكنها غرابة فنية قادرة على صياغة نص سردى متماسك بشكل واضح.
ومن بين الحكايات ينبت المعنى فى الرواية، فمحسن يونس لم يرد أن يسلينا على طريقة القدماء، بل أراد كشف سبل التفكير التى لم تمت بعد، التى لا تزال ظلالها تسيطر علينا، العمل فى مهن ووظائف قضى عليها الزمن، والبحث عن الثراء على طريقة قصص الكتب التراثية أو بيضة ذهبية لطائر نربيه فى بيوتنا، أو حتى مسابقة فى تليفزيون، أو بالعثور على كنز أثرى أسفل السرير الذى ننام عليه منذ عشرات السنين، كل ذلك يدينه محسن يونس، ويقول لنا إننا نعيش بحثا عن "منطق الزهر".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة