دق التليفون فى غرفة دكتور محمد حسين هيكل باشا، رئيس مجلس الشيوخ، بفندق «لوتسيا» فى باريس، يوم 28 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1948، وفوجئ بأن محدثه شاب إسرائيلى سبق له الالتقاء به فى العاصمة الإيطالية روما فى الأسبوع الأول من سبتمبر 1948 أثناء حضوره المؤتمر البرلمانى الدولى، حسبما يكشف فى الجزء الثالث من مذكراته.
يكشف «هيكل باشا» تفاصيل لقاء روما، مؤكدا أنه بدأ باتصال تليفونى به من الشاب الإسرائيلى فى غرفته بفندق «اكسلسيور» بروما، وذكر له أنه يريد تنظيم لقاء له مع «الياهو ساسون».. يذكر هيكل: «ساسون موظف كبير فى وزارة الخارجية الإسرائيلية، قابلنى بالقاهرة غير مرة فى رياسة مجلس الشيوخ وفى منزلى، وكان ذلك قبل قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وبعده، وحاول إقناعى بأن من الخير تفاهم مصر مع اليهود، ولما كان الموقف تغير بعد قرار الأمم المتحدة، وبعد الحرب بين اليهود والعرب، حددت موعدا لهذا الشخص على أن أقف منه على اتجاه اليهود فى هذا الظرف الجديد، فلما جاء إلى الفندق سألنى عما إذا كنت أطيل مقامى بإيطاليا بعد المؤتمر، لأن ساسون يريد أن يقابلنى فى الأيام الأولى من أكتوبر».
جرى الاتفاق على ترتيب اللقاء فى جنيف بسويسرا، ويكشف «هيكل باشا» تفاصيله، قائلا، إن ساسون قال له: «أصارحك بأننا لا نعنى من الدول العربية غير مصر، وأننا حريصون كل الحرص على إقامة علاقات بيننا وبينها على أساس المودة والصداقة».. رد هيكل باشا: «على أى أساس تريدون أن يقوم هذا الصلح؟، أنا لا أعرف الخطة التى قررتها الحكومة المصرية، ولكن أريد أن أعرف عزمكم أنتم فإذا اقتنعت بأن ما يصلح أن يكون أساس حديث فى أمر الصلح أفضيت به إلى الحكومة».
يكشف «هيكل باشا» عن اقتراح طرحه على ساسون، قائلا: «أود أن أذكر لك رأيا شخصيا لى لم أفاتح به أحدا من المسؤولين فى مصر، ذلك أن تتنازلوا أنتم صراحة عن منطقة النقب لمصر، وتعلنوا استعدادكم لهذا التنازل قبل كل حديث، وأجابنى الرجل فى لهجة لم أرضاها: وما حاجتكم إلى النقب ولديكم أنقاب كثيرة لم تصلحوا منها شيئا».
يفسر هيكل باشا المقصود بكلمة «أنقاب» قائلا: «يريد أن صحارى مصر الواسعة لم تنل منا عناية وإصلاحا، وكفتنى هذه العبارة لأكف المضى فى الحديث، فقلت: أظن أنه لا فائدة من الحديث فيما قصدت إليه».. يعلق الكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه «وعليكم السلام» على ذلك: «لم يكن الصراع فى فلسطين يتعلق بضم، أو عدم ضم صحراء النقب إلى مصر، الأمر الذى يدل فى حد ذاته على سذاجة الصورة السياسية لدى الدكتور محمد حسين هيكل، واستحق بالتالى تهكم ساسون عليه».
عاد هيكل باشا إلى مصر فى منتصف أكتوبر 1948، ويؤكد أنه لم يكن فى نيته أن يفاتح أحدا عما دار بينه وبين ساسون، ويذكر: «صرفنى عن التفكير فى هذا الأمر أن أوسع الصحف الموالية للحكومة انتشارا انتهزت فرصة غيابى عن مصر فحملت علىّ حملة غير كريمة، فأقنعنى ذلك بأن أى حديث أفضى به إلى الحكومة فى هذا الموضوع سيتخذ وسيلة لتغذية هذه الحملة».
لم تنته المسألة عند هذا الحد، ففى ديسمبر 1948 سافر «هيكل باشا» إلى باريس لحضور اجتماع اللجنة التنفيذية لاتحاد البرلمان الدولى يوم 28 ديسمبر، وتلقى فى صباح هذا اليوم مكالمة تليفونية فى غرفته بالفندق، ويذكر أنه فوجئ بأن محدثه هو الشاب الإسرائيلى الذى لقيه فى روما، وقال له إنه يريد أن يلقاه هو وأحد زملائه.. ويذكر: «تولتنى الدهشة حين أظهر حرصه على هذا اللقاء، فقد كنت أحسب أن ما دار بينى وبين «ساسون» بجنيف قضى على كل رجاء يدعو إلى استئناف الحديث فى موقف إسرائيل من مصر، أو موقف مصر من إسرائيل، والحوادث التى توالت بعد ذلك أمعن فى تقرير هذا المعنى».
يتذكر هيكل باشا، أن اجتماع اللجنة التنفيذية للبرلمان الدولى بدأ فى الساعة العاشرة صباح 28 ديسمبر 1948، وبعد ساعة ونصف الساعة من انعقاده ناوله حاجب غرفة الاجتماع ورقة عليها توقيع مدير وكالة الصحافة الفرنسية، تحمل خبر إطلاق النار على «النقراشى باشا» رئيس الوزراء، وهى الجريمة التى ارتكبتها «جماعة الإخوان»، واستأذن «هيكل» من الاجتماع وتوجه إلى السفارة المصرية، وظن أن هذا الحادث سيصرف ذلك الإسرائيلى عن التشبث بمقابلته، لكنه فوجئ بأنه يخاطبه للقائه فى اليوم التالى، فماذا جرى؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة