منذ أن رحل والدي الفنان التشكيلي "أحمد الكشوطي"، وأنا اتفادى أي حقيقة تؤكد لي أن "أبويا مات وإن وكلها كام يوم وتعدي سنة..سنة يا بابا من غير ما اسمع صوتك ولا تكلمني ولا أشوفك، سنة كل حاجة حلوة بتحصلي بستناك تكلمني تقولي شاطر كمل بس مبتكلمنيش"، وبعد مشاهدتي لفيلم The Father للنجم المخضرم آنتوني هوبكنز، وهو فيلم افتتاح مهرجان القاهرة، استطاع الفيلم أن يقلب لي كل الموازيين وأن يضعني أمام كل الحقائق التي حاولت تفاديها والهروب منها، عرفني على كثير من الفرص الضائعة التي فاتتني وانا مشغول وملهي بأمور ربما كان يجب علي ترتيب أولويتها.
بالنظر إلي الفيلم وبعيدا عن المشاعر الفياضة التي يضفيها الفيلم علي مشاهديه وتأثير ذلك علي المتابعين ممن يحملون مشاعر تجاه آبائهم، إلا أن الفيلم شديد التميز علي العديد من المستويات، بداية من إختيار الممثلين، فالنجم آنتوني هوبكنز قدم أداء قوي حيث استطاع أن يتلبس الشخصية بكل تفاصيلها وكأن الدور خلق لآجله، فقد سخر كل حواسه لتقدم ذلك الشخص الذي يعاني من خرف الشيخوخة ويحول الشخصية من جمل وتصور مكتوب في سيناريو إلي "آنتوني"، أب من لحم ودم، أب يضحكك ويبكيك ويغضبك تصرفاته أيضا.
The Father
لا يختلف أحد علي أن هوبكنز ممثل من العيار الثقيل، ويعتبر دوره بالفيلم هو واحد من أجمل أدواره في السنوات الماضية ليس فقط لإجادته الدور، ولكن لأن الفيلم لا يعتمد علي أي شيء آخر سوي الأداء التمثيلي لهوبكنز وربما بدونه لن تجد فيلما من الأساس وذلك لا ينفي أبدا دور السيناريو أو الإخراج، ولكنه علاقة تكميلية ربما إذا اخل عنصر منهما فقط الفيلم بالكامل توازنه، لكن حقيقة الأمر أن السيناريو كان غاية في الذكاء لم يترك المشاهد يمل أو يكون لديه القدرة علي التنبئ بأحداث الفيلم أو أين نحن هل أدخلنا المخرج فلوريان زيلر داخل عقل الآب وتحولنا إلي عينين في وجه هوبكنز نري بهم ما يدور من حوله، أم اننا نرصد هوبكنز الأب وكأننا من حوله.
تفرد وذكاء السيناريو الذي كتبه كريستوفر هامتون الحاصل على الأوسكار والذي كرمه مهرجان القاهرة بمنحه الهرم الذهبي، يكمن في كون هامتون وضعنا في الحيرة التي يعيش فيها الأب هل هو بالفعل يعيش في حالة خرف، أم أن ابنته ومن حوله يحاولون إيهامه بأنه فقد عقله، هل بالفعل يعيش الأب في منزله أم في منزله ابنته، أو ربما يعيش في دار مسنين ويوهم نفسه أنه يعيش في منزله ويتعامل مع الأطباء والممرضات من حوله علي أنهم أفراد اسرته، هل هو الأمر كذلك أم أنه يري ابنته في من حوله حتي وأن كان يتخيلهم فقط وحقيقة الأمر أنه في مكان آخر، حيرة غزلها مؤلف العمل اضافت الكثير للفيلم وجعلت الجمهور يقف عاجز عن تفسير ما يحدث لتتضح الحقيقة في النهاية.
لا يخفي أبدا أن اختيار مخرج الفيلم لأبطاله كان غاية في الدقة فالممثلة أوليفيا كولمان والتي جسدت دور الأبنة لا يقل دورها أبدا عن دور هوبكنز فهي الأخرى قدمت دورها باتقان ونقلت مشاعر الأبنة بكل حساسية وبكل مشاعر التضارب ما بين البقاء إلي جواره وبين وضعه في دار للمسنين لصالح صحته وللحفاظ عليه تلك الحيرة التي يقع فيها الكثيرون منا هل نقل الأباء والامهات في كهولتهما إلي دار للمسنين أفضل لهما أم البقاء مع أولادهما، حتى وإن كان في غير صالحه، أما الممثل الإنجليزي روفَس سيوَل والذي قدم دور زوج الابنة فهو شريك أساسي في نجاح العمل وربما أعظم مشاهده هي تلك المشاهد التي جمعته بهوبكنز وأوليفيا والتي يراها هوبكنز وكأنه يدور في متاهة فلا يعرف هل هو داخل اللحظة أم خارجها.
أخيرا اعظم مشاهد الفيلم هي تلك المشاهد التي يتحول فيها العملاق آنتوني هوبكنز هو طفل ينادي علي "امه" لتحميه وتصطحبه خارج دار المسنين، تلك المشاهد التي يتحول فيها من شخص يعتز بنفسه وبقيمته في الحياة إلي طفل ضعيف رقيق القلب مفطور يرد أمه لتحتضنه وتطبطب علي كتفيه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة