ربما قد نجد وجها للتشابه بين الديكتاتور التركى رجب طيب أردوغان وبين الدكتاتور النازى أدولف هتلر، فهما فى قاموس السياسة مجرما حرب ومستبدان وعنصريان، أرادا استغلال دماء الشعوب الأخرى لتحقيق مجد شخصي، إلا أن ثمة فارق كبير بين الرجلين، فالثانى استطاع جعل بلاده قوى عظمى احتلت أغلب أراضى القارة الأوروبية، كما حقق طفرة تكنولوجية كبرى كانت لتستمر لولا أن البذرة التى زرعها فى الأساس كانت فاسدة، كما يتشابه الرجلان فى الخطأ الاستراتيجى الأكبر، وهو الحرب على جبهتين فى ذات الوقت، لتدمر جيوشهما فى نفس اللحظة، الفارق الوحيد فى هذه المقارن أن هتلر كان دكتاتورا كبيرا مثل جنكيز خان، وستالين، ويعتبره كثيرون من المؤرخين - رغم كل جرائمه - من عظماء القرن العشرين، بينما يمكننا اعتبار أردوغان ديكتاتورا صغيرا، أو "ديكتاتور مهزأ"، كما نقول بلهجتنا المصرية.
سوريا.. فيتنام العثمانلي
لا يمكننا تقدير على وجه الدقة حجم المليارات التى أنفقها أردوغان فى سوريا لإسقاط الجيش العربى السوري، خلال السنوات الماضية منذ 2011 وحتى الآن، لكننا يمكنا الجزم بأن تلك الأموال كانت باهظة إذا حسبنا عدد الجماعات الإرهابية التى دعمها أردوعان، ولم تتوقف الفاتورة على الأموال فحسب بل امتدت إلى دماء الجيش التركى التى زادت وتيرة تدفقها خلال الأيام الماضية.
وقُتل 33 جنديا تركيا فى غارة شنتها طائرات تابعة للنظام السورى فى إدلب، حسب مسؤول تركى رفيع، فجر اليوم الجمعة. وأعلن والى ولاية هطاى التركية، رحمى دوغان، إصابة 36 عسكريا تركيا آخرين فى الغارة التى شُنت فى إدلب، شمال غربى سوريا.
وعقب الغارة رأس الرئيس التركى رجب طيب أردوغان اجتماعا أمنيا رفيع المستوى. ونقلت وكالة الأناضول التركية الرسمية عن فخر الدين ألطون، رئيس دائرة الاتصال فى الرئاسة التركية، قوله إن "كل أهداف" الحكومة السورية تتعرض للنيران من قبل وحدات الدعم الجوى والبرى التركية.
ودعت الرئاسة التركية المجتمع الدولى "للوفاء بمسئولياته" تجاه ما يحدث فى إدلب.
ليبيا.. جبهة ثانية للاستنزاف
المؤكد أن أردوغان لم يكن له أن يرسل قواته للتدخل مباشرة فى ليبيا ما لم توافق أمريكا، ويمكننا بسهولة أن نفهم دوافع تركيا للتورط بشكل مباشر فى مستنقع قتال، لا تربطها به حدود بحرية، وتفصلها عن آلاف الكيلومترات البحرية، مما يعنى كابوسا لوجستيا ستواجه هذه القوات على الأرض من الناحية العسكرية، وتركيا لها أربعة أهداف رئيسية للتدخل المباشر فى ليبيا، أولا: الحصول على حصة من كعكة الطاقة الليبية، وثانيا: الضغط لمحاولة الحصول على غاز البحر المتوسط، وثالثا: دعم حكومة السراج الموالية سياسيا لتركيا، ورابعا: التخلص من المقاتلين فى سوريا وإعادة تدويرهم استعدادا لاستخدامهم فى ميدان جديد.
لكن الموقف الأمريكى وأسباب الموافقة على إرسال قوات تركية إلى ليبيا، ليس بهذا الوضوح والبساطة، بل هو موقف شديد التعقيد والتشابك، فإدارة ترامب ليس لها استراتيجية واضحة يمكننا القياس عليها، فمن ناحية يمكننا اعتبار أن هدف الضوء الأخضر الأمريكى هو مواجهة دور الروس المتنامى فى ليبيا، والذين يعتبرون المواجهة فى هذا الميدان امتدادا طبيعيا لمعركتهم فى سوريا من أجل المياه الدافئة، لكننا وفى ذات الوقت لا يمكننا استعباد أن تكون تلك الموافقة الأمريكية توريط لأردوغان لكى يغرق فى المستنقع الليبي، ولكى تصنع منه أمريكا عبرة لحلفائها قبل أعدائها، كما فعلت مع عيره ومن أبرزهم صدام حسين، فأردوغان ارتكب مع أمريكا من الأخطاء الكافية لتبرير دوافع هذا الكمين، فقد أقدم على إقامة تحالفات مع روسيا وإيران فى سوريا، كما أقدم على شراء صواريخ إس 400 من روسيا فى سابقة قد تشجع المزيد من حلفاء واشنطن على تكرارها، بل وهدد بطرد قاعدة الصواريخ النووية الأمريكية فى تركيا، وهى قاعدة شديدة الأهمية لأمريكا فى أى ضربة نووية محتملة ضد الروس لقربها الشديد من حدودهم.
فيما أعلنت القيادة العامة للجيش الوطنى الليبي مقتل 7 جنود أتراك على الأقل، فى القصف الذى شنته قوات الجيش على قاعدة معيتيقة، مساء الخميس، وفقا لما نشرته وكالة "سبوتنيك".
وفى ذات السياق، أوضح مسئول بقسم الإعلام الحربى التابع للقيادة العامة للجيش الليبي، أن الجيش قصف ليل الخميس، بالمدفعية الثقيلة غرفة عمليات الضباط الأتراك بقاعدة معيتيقة الجوية بطرابلس، بعد ساعات من إسقاطه طائرة مسيرة تركية من طراز "بيرقدار" جنوب العاصمة، بحسب تصريحاته لموقع قناة "العربية".
وأكد المصدر وجود ضباط أتراك لحظة تعرض الغرفة إلى القصف، خاصة أن العسكريين الأتراك هم المسؤولين على تسيير الطائرات التركية من طراز "بيرقدار".
من جانبها، أكدت الولايات المتحدة وقوفها إلى جانب تركيا، حليفتها فى حلف شمال الأطلسى "الناتو".
تركيا بين الشرق والغرب.. عهر لمن يدفه
لكى نفهم الدور الخارجى لتركيا بشكل عام لا بد أن ننظر لموقعها على الخريطة كنقطة التقاء وصراع فى الوقت ذاته بين الشرق والغرب، وخلال العقود التى تلت الحرب العالمية الثانية كانت تركيا شوكة الغرب فى خاصرة الاتحاد السوفيتى خلال الحرب الباردة، وروسيا خلال المرحلة الراهنة، والإشكالية هنا أن الغرب يحتاج تركيا للقيام بهذا الدور، ولهذا انضمت لحف الناتو دون تقبل الأتراك كجزء من نسيج المجتمع الأوروبى .
وبعد الانقلاب المزعوم المؤكد أن شرخا ما حدث بين تركيا وأمريكا، الاتحاد الأوروبى سيتحول قريبا إلى صراع، فى حين أننا نجد ما يبدو "توافقا" مع روسيا المستفيدة الكبرى إذا استطاعت أن تكسر هذا الارتباط السياسى العسكرى بين تركيا والغرب، الأمر الذى ينزع شوكة حادة طالما آلمت خاصرة الروس.. هذا هو الموقف "التكتيكى الروسى المتغر" تجاه تركيا وهو عكس الموقف "الإستراتيجى الثابت" لموسكو التى تعتبر – بعد تجربتين مريرتين فى أفغانستان والشيشان - الإسلام السياسى كله إرهابيا ولا تعترف بوجود تيار إسلامى سياسى معتدل، وما يفعله الداهية بوتين الآن هو إرخاء الحبل لأردوغان للمضى قدما فى طريقه نحو فصل الارتباط مع الغرب دون أن يدرى أنه بذلك يشد الحبل حول رقبته.
وفى الإطار الإقليمى الذى يعول عليه أردوغان لتمديد مشروعه القومى العثمانى الإسلامى، فأغلب دول الإقليم ترفض التمدد القومى التركى باستثناء بعض دول الخليج، لذلك هو مجال ضيق للغاية لن يجعل منها قائدا للدول الإسلامية كما يطمح أردوغان، وفى ذات الوقت لن يعوضها عن الخسائر الفادحة التى ستنتج عن انفصال – أو على الأقل اهتزاز - ارتباط تركيا بالغرب.