لا يمكن عقلا أن تستطيع المنافسة إذا حصلت على مُدخلات الإنتاج بضعف ما يحصل عليه المنافسون تقريبا! لكن المشكلة فى قطاع الحديد تنشأ قبل تلك المعادلة، ومنشأها أن الدولة تتعامل مع ملف الغاز باعتباره وقودا، بينما واقع الأمر أنه مُكوّن أساسى من مكوّنات الإنتاج بالنسبة لمصانع الدورة المُتكاملة، التى تعيش وضعا حرجا فى السنوات الأخيرة، وتواجه منافسة لا قِبَل لها بها، ولا يمكنها عبورها من دون التفات الدولة واتخاذ خطوات تصحيحية فى نظرتها للملف أولا، وفى تعاملها منع الاستثمار الصناعى وفق حجمه وقيمته الإضافية ثانيا.
مُلخّص الأمر أن سوق الحديد فى مصر تعمل على مسارين: الأول مصانع دورة مُتكاملة تعمل عبر 4 مراحل إنتاج، بدءا من استخلاص الخام ثم صهره وتنقيته وصبّه وتشكيله، باستثمارات وتكلفة وعمالة ضخمة، والثانى مصانع درفلة تستورد مُنتجا شبه كامل، وتُنجز مرحلة تصنيع واحدة تشمل تشكيل المنتج فى صورته التسويقية، سواء حديد تسليح أو عيدان وألواح، بكُلفة استثمارية وإنتاجية زهيدة قياسا على النوع الأول. هنا يبدو أول ملامح الأزمة، بالمساواة بين النوعين أمام الدولة والحكومة والسوق والمرافق والمعاملات المالية والضريبية، وهى مساواة غير عادلة إذا اقتربنا من المشهد ودققنا فى تفاصيل الصورة وحلَّلنا مكوّناتها!
مصانع الحديد وأزمة الغاز
خلال أكتوبر الماضى اجتمعت اللجنة المعنية بمراجعة أسعار الغاز للمصانع، واستقرت بحسب ما تضمنه قرار رئيس الوزراء رقم 2363 لسنة 2019 على تقليص السعر للمصانع كثيفة استهلاك الطاقة من 7 دولارات للمليون وحدة حرارية فى السابق، إلى 6 دولارات لمصانع الأسمنت و5.5 دولار للحديد والصلب والألومنيوم والنحاس والسيراميك. كانت الخطوة إيجابية قياسا على القائم قبلها، لكنها للأسف لم تكن كافية!
بحسب مستثمرين ومتصلين بقطاع الصلب، فقد تأخرت تلك الخطوة، خاصة فى ظل تحولات سوق الصلب العالمية، والمزايا التى يحصل عليها المنافسون فى الأسواق الخارجية، وفوائض الإنتاج الضخمة فى الصلب والبليت "الحديد شبه التام"، وهى المكونات التى تضافرت معا لتمثل ضغطا مضاعفا على النشاط الصناعى فى مصر، وقدرات المصانع المُتكاملة على التكيف مع التعقيدات الناشئة عالميا، والمدفوعة عالميا بفعل ارتفاع كُلفة الإنتاج والأعباء الملقاة على عاتق الشركات.
تقول مصادر وثيقة الصلة بقطاع الصلب، إن المزايا التى أتاحتها الحكومة للاستثمارات الصناعية، بموجب قانون الاستثمار الجديد والخطوات الإجرائية والتنفيذية المتتابعة، كانت أقل أثرا على سوق الحديد، خاصة بالنسبة للمصانع المُتكاملة، موضحا أن قائمة الأعباء تمتد لتشمل كُلفة السلع الرأسمالية، ومراحل الإنتاج، والمواد الخام، والتشغيل، والأعباء الإضافية بموجب قانون التأمينات الاجتماعية الجديد، لكن يظل أخطرها التقدير المبالغ فيه لسعر الطاقة، خاصة فى ظل الخلل الهيكلى القائم بالتعامل مع مكوّن الطاقة باعتباره وقودا يُمثّل شريحة هامشية من عملية الإنتاج وكُلفتها، بينما فى حقيقة الأمر تُمثّل الطاقة عنصرا أساسيا من مُدخلات الإنتاج، لا تقل أهمية عن المواد الخام والعمالة والسلع الرأسمالية "الآلات".
تفصيل تلك النقطة تبدو أكثر وضوحا بالنظر إلى طبيعة نشاط الدورة المُتكاملة فى صناعة الحديد. فبينما تنحصر مهمة المصانع العاملة بنظام الدورة الواحدة "الدرفلة" فى استقبال المنتج شبه التام "البليت" وتشكيله فى الصورة التسويقية للمنتج النهائى، فإن مصانع الدورة المُتكاملة تبدأ الرحلة من بدايتها، عبر اختزال الحديد من خلال أفران عملاقة عالية استهلاك الطاقة، ثم صهر الحديد المختزل لتحويله إلى صلب سائل، وبعدها يُصب فى صورة "بليت"، وأخيرا تتلاقى مع الفئة الأولى من المصانع فى عملية الدرفلة أو التشكيل.
فى مقابل مرحلة واحدة تنفذها مصانع الدرفلة باحتياجات من الطاقة لا تتجاوز 1% من الاستهلاك للعملية الإنتاجية بكاملها، تحصل عليها بكُلفة أقل وفق مستويات تسعير الكهرباء، تتكبد مصانع الدورة المُتكاملة فاتورة تتراوح بين 12 و15% من كُلفة إنتاج الطن، باستهلاك يتراوح بين 11 و15 مليون وحدة حرارية عن كل طن، تحصل عليها وفق مستويات التسعير الحالية بنحو 71 دولارا فى المتوسط (أكثر من 1100 جنيه).
منافسة غير عادلة مع المستورد
وفق الحسابات الاقتصادية يُفترض أن تُحقق مصانع الدورة الكاملة أرباحا أكبر. بالنظر إلى استثماراتها التى تتجاوز 150 مليار جنيه، وحجم عمالة يقارب 30 ألف عامل، فإن مصانع الدرفلة تضخ استثمارات لا تتجاوز 10% من نظيرتها، وتوظف أقل من 6 آلاف عامل بما لا يتجاوز 16% من إجمالى عمالة القطاع، وفى ضوء حسابات الاقتصاد والوزن النسبى ودورة رأس المال، تحتاج المصانع المُتكاملة إلى معدلات ربح تتجاوز ضعف مثيلتها، لكن المفارقة أن العكس هو ما يحدث فى القطاع.
يرى أصحاب المصانع المُتكاملة أنهم يتكبدون خسائر غير مُبررة، بينما يؤكد اقتصاديون ومختصون فى الصناعة أن المنافسة بالصورة القائمة غير عادلة، ويُوضحون الأمر من خلال حزمة أرقام: تراجع سعر طن البليت إلى نحو 400 دولار، وبقدر زهيد من العمالة والطاقة والهالك تصل مصانع الدرفلة إلى طن الصلب بكلفة أقل من 9 آلاف جنيه بحسب المصادر، بينما تتكبد المصانع المُتكاملة تكلفة الخام وفق معدلات التسعير العالمية، تُضاف إليها حصة كبيرة لصالح دورة رأس المال فى ضوء أسعار السلع الرأسمالية ومستلزمات الإنتاج الثابتة وكُلفة العمالة الكثيفة، وفوق ذلك تتحمل بين 60 و75 دولارا تحت بند الغاز، تُضاف إليها 5 أو 10 دولارات للكهرباء، وهو ما يعنى ارتفاعا بأكثر من 1000 جنيه فى تكلفة إنتاج الطن قياسا على المنافسين.
لجنة تسعير الغاز للمصانع التى أقرت السعر الجديد خلال أكتوبر الماضى، أقرت مراجعة الأسعار دوريا كل 6 أشهر، لكن وفق الرؤية الراهنة فمن غير المتوقع أن يسفر اجتماعها المرتقب أواخر مارس المقبل عن خطوة تصحيحية كاملة للأوضاع، فما دامت فلسفة القائمين على إدارة سوق الطاقة ثابتة فى النظر إلى المصانع كثيفة استهلاك الطاقة، وإلى مصانع الحديد رغم اختلاف مسارات عملها وتكلفة الإنتاج داخل كل منها، فإن الأمر لن يتجاوز ترشيدا زهيدا للتكلفة، بينما يبلغ الفارق بين الوضع القائم والنظائر العالمية أكثر من 80% من السعر، وبدقة أكبر فإن مصانع الدورة المتكاملة تتكبد فاتورة طاقة تصل إلى 183% فى المتوسط مقارنة بالمصانع المماثلة فى الدول المنتجة للصلب حول العالم.
محنة الصناعة ونار الأسعار
قد لا يبدو الأمر واضحا إذا استطلعنا الأمر داخل أروقة المصانع وحدها. تتضح الصورة بدرجة أكبر فى ضوء الأرقام والمؤشرات الرسمية، التى تؤكد ضمنيا تضرر مصانع الحديد الوطنية من الأعباء القائمة بسبب عدد من العناصر والمكونات، فى مقدمتها إدارة ملف تسعير الطاقة وتكلفة الغاز!
بحسب بيانات هيئة الرقابة على الصادرات المصرية، فقدت صادرات الحديد والصلب المصرية 363 مليون دولار خلال 10 شهور تقريبا، إذ تراجعت بنسبة 34% بين يناير ونوفمبر 2019 قياسا على الفترة نفسها من العام السابق، بينما بلغت نسبة التراجع 26% فى صادراتنا للسودان، و57% لإسبانيا، و52% للولايات المتحدة، و75% لإيطاليا، و60% للجزائر، و76% لسوريا. بينما كانت المؤشرات أكثر فداحة فى صناعة السيراميك مثلا، التى تعانى الأزمة نفسها، إذ تراجع الإنتاج قرابة 40% وفقدت مصر موقعها المتقدم عالميا فى القطاع بعدما كانت ضمن أهم 10 مصدرين للسيراميك.
خارج البيانات الرسمية، فإن الصورة المحلية مقارنة بالسياق العالمى تبدو كاشفة بدرجة أكبر. وفق مستويات التسعير المصرية تحصل المصانع على الكهرباء بسعر 7 سنتات للكيلو وات، مقابل 3 فقط عالميا، وعلى الكهرباء بـ5.5 دولار للمليون وحدة حرارية مقابل 3 دولارات عالميا فى المتوسط، بينما تتراجع القيمة إلى ما دون ذلك فى عدد من الأسواق الرائدة حول العام، وبينها أسواق منافسة للصناعة الوطنية وحاضرة بقوة على أجندة استيراد البليت لمصانع الدرفلة المصرية، وتشير بيانات مُدققة إلى أن كُلفة الغاز لا تتجاوز مثلا 2.8 دولار فى الولايات المتحدة، و1.9 فى روسيا، و1.5 فى كندا.
يرى المتصلون بالقطاع أن مستويات التسعير التى كانت مُبررة وقتما كانت الدولة تُدبّر احتياجاتها من الغاز عبر الاستيراد وفق مستويات الأسعار العالمية، لم يعد مفهوما بعدما أصبحت مصر من كبار اللاعبين العالميين فى سوق الغاز، وحققت اكتفاء ذاتيا مع امتلاك فوائض ضخمة وآخذة فى التنامى بفضل الاكتشافات الجديدة واتفاقات البحث والاستكشاف الموقعة مع عدد كبير من الشركاء الدوليين وأبرز مستثمرى الطاقة فى العام. وبحسب هذا الرأى فإن مصر المكتفية من الغاز تُكبد مصانعها الوطنية أكثر من 70 دولارا لطن الحديد، بينما لا تتجاوز تلك التكلفة 35 دولارا فى المتوسط لدى المنافسين، والأزمة أن تلك الفوارق غير القليلة تُستخدم لاحقا فى ضرب الصناعة الوطنية، إذ يستقطب هؤلاء اللاعبون تجار الحديد ومصانع الدرفلة ويمنحونهم أسعارا تنافسية لتصريف الفوائض والحفاظ على دوران مصانعهم، وتدخل تلك الدفقات إلى السوق المحلية بتكلفة أقل 35 دولارا للطن، ترتفع لاحقا بفضل تكاليف التشغيل المحدودة للغاية فى مصانع الدرفلة، ليصل الفارق الذى بدأ بنحو 600 جنيه إلى أكثر من 1000 جنيه مع الوصول إلى عتبة التسويق، وهو حدّ تسعيرى تعجز مصانع الدورة المتكاملة عن الوصول إليه، ومن ثمّ تعجز عن المنافسة وتسويق منتجها، ما يتسبب فى تراكم المخزون وتزايد الأعباء وتجفيف هوامش الجدوى الضئيلة، بصورة تُنذر بالعجز مستقبلا عن الوفاء بالالتزامات، والاضطرار إلى الانكماش إنتاجيا واستثماريا، أو ربما التخارج ومغادرة النشاط أو السوق بكاملها!
أفران الحديد تئن وتستغيث
فى الوقت الراهن تعمل مصانع الدورة الكاملة بنحو 55% من قدراتها الإنتاجية، بحسب مصادر فى القطاع تحفظت على التصريح بهوياتها، وهو الحد الذى أكدت المصادر أنه غير كافٍ لضمان الجدوى التشغيلية والاستثمارية، خاصة فى ظل أعباء متزايدة وكُلفة إنتاج مرتفعة أصلا، وهو الأمر الذى يُحتمل معه أن تشهد السوق اتجاها انكماشيا على مستوى الإنتاج المحلى، سيتبعه بالضرورة توسع المستوردين واستقطاب مزيد من الفوائض العالمية، وهو أمر فضلا عن ضرره الكبير للصناعة الوطنية، يخصم من القيمة المضافة والقدرات الوطنية ويقود على المستوى البعيد إلى أن نكون عُرضة لتقلبات السوق العالمية حال ارتفاع الأسعار أو تدشين تحالفات وكارتلات عملاقة لإعادة هيكلة سوق الصلب وفرض مسارات تسويق وتسعير ضارة بالأسواق الناشئة.
فى الوقت الراهن لا تبدو الصناعة على قدم المساواة مع مكونات الاقتصاد والنمو المصرى. بصورة قطاعية تراجع نجو قطاع الصناعات التحويلية من 4.8% قبل سنتين إلى 2.8% خلال العام المالى الأخير، وهى نسبة ضئيلة مقارنة بمعدل النمو العام الذى سجل 5.6% مؤخرا، وضئيلة جدا قياسا على نمو قطاعات الاقتصاد الأخرى الرائدة، مثل الاتصالات التى نمت بنسبة 16.7%، والسياحة 20.1% خلال 2018/ 2019.
أمام تلك الصورة المُركبة، ينتظر المنخرطون فى قطاع صناعة الصلب قرار لجنة التسعير أواخر الشهر المقبل، بينما يقول خبراء ورجال صناعة إن الأمر لا يحتمل الانتظار حتى لو لعدة أسابيع فقط، وبدورهم يطالب أصحاب مصانع الدورة المُتكاملة وممثلوها تقليص سعر الغاز إلى 3 دولارات أو 3.5 دولار للمليون وحدة حرارية من مستواه الراهن عند 5.5 دولار، وهو يُقلص أعباء القطاع بنحو 210 ملايين جنيه تقريبا (وفق حجم الإنتاج عند مستوى 7 ملايين طن) ما يعنى تقليص الخسائر الراهنة وصولا إلى التعادلية أو الربح، والأهم أن تلك الخطوة ستحافظ على استثمارات تتجاوز 150 مليار دولار، وستصون معيشة نحو 300 ألف شخص يشكلون 30 ألف أسرة من ذوى العاملين فى المصانع، فضلا عن شبكات واسعة من الوكلاء والتجار والحلقات الوسيطة، وكلها تتأثر بحالة الارتباك القائمة، وتكتوى بنار الأسعار التى تكبل أفران الغاز وتصهر قلاعا صناعية ضخمة وواعدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة