صدر حديثاً عن منشورات المتوسط -إيطاليا، كتاب فلسفى جديد للكاتب والمترجم المغربى عبد السلام بنعبد العالي، بعنوان: "لا أملك إلَّا المسافات التى تُبعِدُني".
وفى مقدِّمةِ الكتاب، يتضح معنى العنوان كعتبة أولى حيثُ يقول الكاتبُ: يُبدى البعض انزعاجاً كبيراً من الكتابات التى تستعين بالاقتباسات، و"تتَّكئ" على بعض المفكِّرين الذين غدت أسماؤهم حجَّة، يُعتمَدُ عليها، وسنداً "يُستَنَدُ" إليه، ودعامة تَستمدُّ منها الأحكامُ صِدقَها، وتنهل منها الخطاباتُ أهمِّيَّتَها، وتكتسب منها الكتابة قوَّتها. وهم ينصحون كُتَّابنا أن يُقلِعُوا عن استنساخ غيرهم، ويُثبتوا كفاءتهم وقدرتهم على الإبداع بأن ينطلقوا من "درجة صفر الكتابة".
رغم براءة النصيحة وحسن نِيِّتها وغَيْرتها على فكر"نا" وإبداعـ"نا"، فهى تنطوى على مفهوم معيَّن عن الكتابة، ونظرة بعينها إلى الفكر، بل ربَّما تفترض فَهْماً معيَّناً للهوية، وموقفاً بعينه من التراث الفكري.
المُسلَّمة الأولى التى تفترضها هذه النظرة هى أن الاقتباس أمر يتمُّ، دوماً، بوَعْى وسَبْق إصرار. والحال أن الكاتب غالباً ما يقتبس حتَّى إن ظنَّ أنه صاحب الفكرة وأنه السَّبَّاق إليها.
إن الكتابة توليد للفكر واللغة، ومَنْ يقول اللغة يقتحمُ اللَّاوعي، ويدخل غياهب التاريخ. لذا نجد من المفكِّرين مَنْ ذهب إلى القول بأن اللغة هى التى تُفكِّر وتكتب، وأن يد الكاتب هي، دوماً، "يد ثانية".
هذا الاقتحام لغياهب التاريخ يطرح مسألة التراث الفكرى وكيفية تملُّكه وتجاوُزه. وهي، كما نعلم، مسألة معقَّدة، يتوقَّف النظر فيها على فَهْمنا للفكر وللقطائع والانفصالات. وهذا الفَهْم يتدرَّج من مجرَّد الموقف الوضعى الذى يَعتبر القطيعة انفصالاً مطلقاً، يَجُبُّ فيه الحاضرُ ما قبله، إلى الموقف الجينيالوجى الذى ينظر إلى التراث الفكرى على أنه ينطوى على ما يحجبه ويغلِّفه، فيَعتبر تجاوُزه تراجعاً لا ينفكُّ إلى الوراء، كما يَعتبر التَّملُّك الفكرى انفصالاً دَؤُوْباً، تتعيَّن فيه الهوية بالمسافات التى تبعدها، أكثر ممَّا تتحدَّد بانصهارها وتوحُّدها مع ما تزعم تملُّكه.
أخيراً جاء الكتاب فى 400 صفحة من القطع الوسط، وهو إضافة نوعية لمُنجز الكاتب عبد السلام بنعبد العالى من مؤلفات وترجمات، ليتأكَّد فى سياقه الجديد أنَّ الحوار مع التراث الفكرى يهدف إلى بلوغ الشيء ذاته الذى قيل بأنحاء مختلفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة