لا نزال مع المفكر العربى الكبير جواد على (1907- 1987) نتواصل معا في قراءة تاريخ العرب من خلال كتابه المهم "تاريخ العرب بل الإسلام"، ونتحدث اليوم على أبناء كوش.
يقول "جواد على" نجد فى التوراة أن أبناء "كوش": "سبا، وحويلة، وسبتة، ورعمة، وسبتكا"، وأن "شبا وددان" هما ابنا "رعمة"، و"كوش" هو ابن "حام"، والمراد بأبناء "كوش" الحبش وسكان "نوبيا" وهم سود.
أما الأسماء المذكورة، فهى أسماء قبائل وأرضين عربية معروفة، لذلك حار علماء التوراة فى تفسير الأسباب التى حملت كتبة التوراة على جعل تلك الأسماء أسماء أولاد لكوش، فرأى بعضهم أنها كناية عن قبائل عربية هاجرت من جزيرة العرب إلى السواحل الأفريقية المقابلة واستقرت فى إفريقيا منذ أزمنة قديمة وكوَّنت لها مستوطنات وربما حكومات هناك، واندمج نسبها فى أرض إفريقيا، فعُدَّت من شعوبها، فلما دون أهل الأنساب العبرانيون أنساب البشر فى أيامهم عدوها من شعوب إفريقيا بحسب إقامتها، وأدخلوها فى أبناء "كوش"، أى فى أبناء تلك المنطقة التى أقاموا فيها.
وذهب بعض آخر إلى أن "الكوشيين" المذكورين لم يكونوا من إفريقيا، بل من جزيرة العرب، ورأوا وجود "كوش" أخرى فى جزيرة العرب أصحابها هم القبائل العربية المذكورة، واستدلوا على ذلك بما جاء فى "أخبار الأيام الثانى": وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب "الكوشيين".
ويفهم من هذه الآية أن العرب المذكورين الذين عادوا "يهورام" كانوا يجاورون "الكوشيين"، ويقتضى ذلك على زعمهم وجود "كوش" أخرى هى "كوش عربية"، وإياها قصد "سفر التكوين" فى هذا المكان.
أما "سبأ"، وقد ذكر الاسم بالسين فى هذا الموضع من التوراة، فإنه اسم شهير معروف، هو شعب سبأ، وتصور التوراة وجود "سبأ" فى "كوش" يشير إلى انتشار السبئيين فى أفريقيا، ووقوف العبرانيين على ذلك، وعندى أن ذكر السبئيين مرة بـ"شبا" أى: بالشين المعجمة، ومرة بالسين المهملة، إنما وقع من كتبة الأسفار، كتبوه بالشين على وفق النطق العبرانى، وكتبوه بالسين على نحو ما ينطق به فى العربية، فظهر الاسم وكأنه اسم شعبين متباينين، ولا سيما فى الموضع المذكور، حيث ظهر اسم "سبا" بالسين، ابن من أبناء "كوش"، بينما ظهر بالشين أى: "شبا" ابن من أبناء رعمة وشقيق لـ"ددان" على حين ورد بالشين أيضا فى أولاد يقطان.
والظاهر أن المورد الذى استقى منه كتبة الأسفار هذه الأسماء سموها بالشين من إخوانهم العبرانيين الذين كانوا على اتصال بالسبئيين، وذلك على وفق نطقهم، وقد كان هؤلاء السبئيون من سكان اليمن وأعالى الحجاز، فأطلقها عليهم بحسب نطق العبرانيين بها، وسمع عن السبئيين الآخرين وهم من دعاهم بـ"الكوشيين" من العرب، فضبطها بالسين، وفرَّق بين الأنساب على طريقة العبرانيين من نسبة الأقوام إلى المواضع التى يقيم من ينسبونهم بها.
وأما "حويلة"، فقد تحدثت عنها فى كلامى على أبناء "يقطان".
وأما "سبتة" "Sabta"، فقد رأى بعض العلماء أنها قبيلة من قبائل جزيرة العرب، يجب أن تكون مواطنها بين "سبأ" و"رعمة"، ورأى آخرون أنها على ساحل الخليج، على حين رأى آخرون أنها "Sabota" أى "شبوة" عاصمة حضرموت، ورأى "كلاسر" أنها فى اليمامة.
وأما "رعمة" "Raamah"، فإنه والد "شبا" و"ددان" "ديدان"، ولكونه أحد أبناء "كوش" وجب البحث عن أرضه فى إفريقيا، إلا أن العلماء لا يتفقون على ذلك، بل يذهب أكثرهم إلى أن "رعمة" كناية عن أرض هى فى مكان ما من جزيرة العرب، فى غرب الخليج العربى حيث موضع "Regma" الذى ذكره "بطلميوس"، أو فى أرض "Rammanitae" الذى ذكره "سترابو"، أو موضع "ركمت" "ركمات" "رجمت" "رجمات" المذكور فى كتابات المسند.
ويخيل إلى أنه كناية عن حلف ضم جماعة من السبئيين الشماليين والديدانيين ورعمة فى تلك الأيام؛ ولذلك صير والدًا لشبا وددان، ثم انفصمت عراه، فذكرت "رعمة" مع "شبا" تتاجر مع "صور" "TYR" وذلك فى سفر حزقيال، أو أنه اسم أرض فى شمال غربى العربية الغربية يجاور مواضع السبئيين الشماليين والديدانيين، أو فى موضع ما من سواحل الخليج.
وأما "سبتكا"، فلا نعرف من أمرها شيئا يذكر، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تحريف لفظة "سبتة"، ويرى "كلاسر" أنها فى الأقسام الشرقية من جزيرة العرب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة