قضت المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا، منذ أيام، بعدم دستورية المادة 217 من قانون العقوبات الألماني، التي تحظر على العاملين في المؤسسات المتخصصة مساعدة المرضى الذين يعانون من أمراض لا أمل في الشفاء منها، على الموت رحيم، حيث أعلنت أن المادة 217 من قانون العقوبات باطلة ولا تتوافق مع قواعد الدستور، وذلك عقب العديد من الدعاوى الدستورية التي تقدم بها أفراد يعانون من أمراض عضال وأطباء وكذلك مساعدون ضد حظر المساعدة على الموت الرحيم.
علاقة القتل الرحيم بالحالة الميؤوس من شفائها
الموت الرحيم أو القتل الرحيم ويعرف أيضاً باسم الانتحار بمساعدة طبية هو باختصار شديد عملية إنهاء حياة الشخص من قبل الطبيب أو من يقدم الرعاية الطبية، وعادة ما يقترن الموت الرحيم بحالة ميؤوس منها غالباً ما تكون مرض مستعصي يسبب الكثير من الألم، وتكون نهايته الوفاة على أي حال، وفي حالات أندر يتم تنفيذ القتل الرحيم مع أشخاص يعانون من إعاقات جسدية أو عقلية غير قابلة للعلاج ويعتقدون أنهم غير قادرين على التأقلم معها.
وفى الحقيقة يتم القتل الرحيم من خلال طبيب أو أحد أهل المريض يحقن المريض بأدوية تسرع إنهاء حياته مثل جرعات زائدة من المسكنات والمهدئات أو مواد سامة، ومشكلة قتل المجني عليه رحمة به لتخليصه من آلم مرض لا خلاص منه من المشاكل القديمة التي لا تفتا أن تختفي ثم تعود إلى الساحة بشدة، وعلى الرغم من إعادة طرح قضية الموت الرحيم في العصر الحديث كقضية أخلاقية شائكة لاسيما بعد حكم المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا.
ما حكم "القتل الرحيم" للمريض الميؤوس من شفائه؟
في التقرير التالي، يلقى "اليوم السابع" الضوء على إشكالية القتل شفقة بالمجني عليه بعد حكم المحكمة الدستورية العليا في المانيا بعدم دستورية تجريمه في الوقت الذي خلقت فيه هذه المسألة حول القتل الرحيم جدلا عالميا ووطنيا بين مؤيد لهذه الفكرة ومعارض لها، فالذين يؤيدونها يرون أنها تحد من معاناة المرضى وتنهيها وتحد من معاناة أسرته وأحبائه، والذين يعارضونها يرون أنها تخالف الدين وتتنافى مع ما جاءت به منظمات حقوق الإنسان، إذ تنتهك "حق الحياة" والذي يعد أسمى الحقوق، لكن ألا يعد الموت بكرامة حقا أيضا من وجهة نظر البعض؟ - بحسب أستاذ القانون الجنائي والمحامي بالنقض ياسر الأمير فاروق.
نشأة الموت الرحيم لدى اليونانيين
في البداية – يجب أن نتحدث أولاَ عن مسألة نشأة الموت الرحيم تعود إلى فترات أقدم بكثير، حيث شهدت حضارات الشرق القديم حالات من القتل الرحيم للمصابين بالأمراض المستعصية، كما عرفت "اسبرطة" اليونانية القتل في المهد للأطفال الذين يعانون من إعاقات جسدية واضحة بهدف تخفيف العبء عن المجتمع، ويعود الجدل العميق حول القتل الرحيم إلى عصر أفلاطون الذي كان يؤيد إنهاء حياة المرضى بأمراض عقلية أو جسدية مستعصية، فيما عارض الفيثاغورثيون ذلك، وكانت ممارسة إعطاء السم للمريض من قبل الأطباء شائعة في تلك الفترة، لكن قسم أبقراط أبو الطب تضمن الامتناع عن هذه الممارسة – وفقا لـ "فاروق".
الموت الرحيم في أوروبا
وفي العصر الحديث مرَّ القتل الرحيم بفترات مختلفة من السماح بممارسته أو التسامح معه أو غض البصر عنه أو منعه نهائياً، وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر سجل عدد كبير من الفلاسفة المشاهير تأييدهم أو رفضهم للموت الرحيم، ومع بداية القرن التاسع عشر بدأت محاولات تقنين القتل الرحيم في سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية، ولقد ظهرت الكثير من الدعوات لتقنين الموت الرحيم في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وعلى الرغم من وضع قوانين تسمح بالموت الرحيم في أكثر من دولة أبرزها هولندا وبلجيكا فإن الجدل الأخلاقي والقانوني والديني ما زال قائماً حول فكرة إنهاء الحياة بكرامة أو القتل الرحيم.
إذ بالرغم من التقدم المذهل الذي حققته البشرية في علوم الطب إلا أن العلم في كثير من الأحيان يقف عاجزا عن علاج الناس وتخفيف آلامهم بسبب بعض الأمراض المستحدثة والفيروسات الخبيثة، فيعاني الأنسان ويتعذب بل ينهار ويطلب من أقرب الناس إليه بل ومن الأطباء ذاتهم إنهاء حياته ليتخلص من آلامه ومن الأطباء والرفاق من يضعف أمام الحاح المريض واليأس من علاجه، فيساعده علي إنهاء حياته، ووجه المشكلة أن الجاني ليس مجرم بل صاحب قلب رحيم وأنه فعل فعلته بناء على رضا ورغبة المجني عليه فالباعث نبيل والقلب رحيم وهناك ضغط على ارادة الجاني قد يصل إلى الإكراه المعنوي لاسيما إذا كان غزيز علي المجني عليه ولا يتحمل تعذيبه، والمشكلة لها ثلاث أبعاد أحدهما ديني والآخر أخلاقي والأخير قانوني – الكلام لـ "فاروق".
علاقة القتل الرحيم بالجانب الدينى
فأما عن الجانب الديني، فيعتبر القتل الرحيم مرفوضاً وعلى الرغم من نقاش بعض رجال الدين للقضية إلى أن الاتجاه العام في اليهودية والمسيحية هو تجريم القتل الرحيم باعتباره تدخلاً بالإرادة الإلهية، ويصنف كحالة انتحار في حال موافقة المريض وكحالة قتل في حال كان المريض غير واعٍ، ومن وجهة نظر الإسلام فإن إجماع الآراء هو عدم جواز القتل الرحيم بأي شكل من الأشكال، ويعتبر كل من طلب القتل الرحيم وساعد في إنهاء حياة المريض بأي طريقة آثماً ومخالفاً لشرع الله تعالى، وذلك أن الموت إرادة إلهية لا يجوز لأحد أن يتدخل بها، ولا يقدر أحدٌ على تأجيل الموت أو تعجيله إلا بإرادة من الله، وكذلك هي الحياة، فالله وحده من يعرف إن كان المريض يشفى أم لا، مهما كان مرضه أو حاله، فهو بين يدي ربه لا يمكن التنبؤ بشفائه من عدمه بشكل قاطع، وإقدامه على قتل نفسه بمقام الانتحار، ومن ساعده على إنهاء حياته فهو قاتل عمد.
علاقة القتل الرحيم بالجانب الأخلاقى
أما عن الجانب الأخلاقي فمحل خلاف إذ يرى البعض لزوم احترام رغبة المريض بإيقاف العذاب الناتج عن الألم والعلاج، عند التأكد طبيا أن المريض لن ينجو وأن عذابه سينتهي بالموت المحتم، فالموت الرحيم في المقام الأول وسيلة لإنهاء عذاب المريض بإرادته في الحالات الميؤوس منها، فإذا كان المريض سيتلقى علاجاً لإطالة حياته لكن حياته ستكون عبارة عن ألم لا يحتمل، فقد يرغب في إنهاء حياته ويجب أن نحترم هذه الرغبة، كما يساعد الموت الرحيم الأهل على تقبُّل موت المريض وتوديعه وهم يعرفون أنه ذاهب إلى الموت في موعد معلوم ومن شأن الموت الرحيم أن يزيح الكثير من الأعباء الاقتصادية عن كاهل الأهل في الحالات المستعصية، وكذلك عن كاهل المجتمع والدولة.
ولا يمكن التنبؤ فعلياً بقدرة المريض على التعافي لوجود الكثير من الاعتبارات التي قد تجعله يعود إلى حياة مقبولة، وإن لم تكن طبيعية بالمطلق، في حين يعترض البعض الآخر على القتل الرحيم بدعوة أنه قد يسوء استخدام القتل الرحيم بهدف الحصول على الميراث أو لدوافع انتقامية أو للتخلص من عبء المريض، وأيضا فإن معظم المرضى الذين يطلبون الموت الرحيم يعانون من الاكتئاب الحاد نتيجة مرضهم، وقد يكون تقديم الرعاية النفسية لهم خياراً أفضل من قتلهم.
القتل الرحيم في دول العالم
وأما من الناحية القانونية، فيصنف القتل رحمة بأنه قتل عمد إذ الباعث لا يعد من أركان الجريمة فلا يهم ما إذا كان نبيلا أو سيئ، كما أن كل ما يشترطه القانون في محل القتل أن يكون المجني عليه إنسان حي ولو كان ميؤوس من شفائه، ولهذا فإن الكثير من الدول لجأت إلي تخفيف عقوبة القتل الرحيم كالقانون الايطالي واللبناني، ولجأت دولة أخري إلي اباحة القتل رحمة، ففي سويسرا أصبح قانونياً عام 1937 وفي عام 1938 تم تأسيس جمعية القتل الرحيم في أمريكا للضغط نحو تقنين الموت الرحيم، وبدأت بعض الولايات تقر قوانين الموت الرحيم منذ السبعينات أولها ولاية أوريغون، وتم وضع قانون ينظم عملية الموت الرحيم في ولاية واشنطن ومونتانا عام 2009، كما ألغت كل من هولندا وبلجيكا القوانين التي تجرِّم الموت الرحيم عام 2002 ومن الدول التي تسمح بالموت الرحيم أيضاً لوكسمبورغ 2009، كولومبيا 1997، كندا بين 2014 و2016.
إشكالية المادة 217 إلى قانون العقوبات الألماني
وفي المانيا كان البرلمان الألماني – بوندستاج – قد أضاف المادة 217 إلى قانون العقوبات الألماني عام 2015 لمنع الأطباء والعاملين فى الرعاية الطبية بمساعدة بعض المرضى على الانتحار باستخدام الأدوية أو السموم أو غيرها، فيما سمحت لعائلات المرضى فقط بالمساعدة في إنهاء حياة ذويهم، وذلك بعد اعتراض الكنيستان الكاثوليكية والبورستانتينية على شرعية إنهاء الحياة بمساعدة أخرين، خشية أن يؤدى ذلك إلى انتشار تجارة الموت وتشجيع المرضى على إنهاء حياتهم، فنصت تلك المادة علي عقاب كل من يقوم بالمساعدة في إنهاء الحياة أو الانتحار بالحبس لمدة 3 سنوات.
رأى المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا في القتل الرحيم
إلا أن بعض الأطباء اعتبروا أن هذا أمر تعجيزي يحول دون حق إنهاء الحياة الرحيم، ولجأ بعض الأطباء والمرضى إلى المحكمة الدستورية العليا التي قضت بأن الحق فى الموت بمساعدة طرف ثالث حق دستوري لكل مواطن فى ألمانيا، وألغت المحكمة المادة من 217 من قانون العقوبات الألماني والتي كانت تجرم وتحرم تقديم أي مساعدة لإنهاء الحياة أو ما يعرف بالموت الرحيم، وقالت المحكمة الدستورية العليا خلال نطقه بالحكم :إن حق الموت ذاتيا أو الانتحار بمساعدة طرف آخر مكفول دستوريا، وأن المادة 217 من قانون العقوبات تجعل هذا الحق غير ممكن إلى حد كبير، ولذا لابد من إلغائها، بينما علق أحد رجال القانون في ألمانيا قائلا: إن المانيا دولة علمانية، ويجب ألا يكون للكنيسة أى تأثير فى التشريعات القانونية، مشيرًا إلى أن كلتا الكنيستين فى ألمانيا تعارض وضع حد للحياة بمساعدة أخرين، ولذا فإنه من الإيجابي أن تتولى أعلى محكمة فى البلاد كمؤسسة قانونية مدنية مهمة تنظيم الحق الذى يكفله الدستور للمواطن في انهاء حياته بمحض إرادته.
علاقة التشريعات المصرية بالقتل الرحيم
كل ما ذكرناه ما هو إلا وجهة نظر وحزمة من التشريعات لا يمكن التسليم بها في مصر ليس فحسب على اعتبار أن الشريعة الإسلامية تنبذه وهي المصدر الرئيس للتشريع، وإنما أيضا لأن المشرع في المادة 234 من قانون العقوبات عاقب كل من قتل نفسا عمداً بصيغة عامة مطلقة دون تفرقه بين قتل وآخر، كما أن رضا صاحب الحق وهو المجني عليه في التصرف في حياته بإنهائها من خلال آخر، كما يري جمهور الفقه حق الحياة لا يجوز للإنسان أن يتنازل عنه أو يتصرف فيه كي يبيح للغير إنهاءه فهو هبة من الله لم يكتسبه الإنسان بل جبل عليه.
ولا ينبغي أن يثور الخلاف في مصر في ظل المادة 92 من الدستور التي تنص على أن الحقوق اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلا ولا انتقاصا وأن أي قانون ينظم هذه الحقوق لا يجوز أن يصادرها وأن منع القتل الرحيم يعني مصادرة حق الأنسان في أن ينهي حياته، وبالتالي تعد نصوص القتل في قانون العقوبات التي تجرم بعموم لفظها القتل ولو كان بدافع الشفقة غير دستورية، فمثل هذا القول فيه بُعد لأن حق الحياة فعلا من الحقوق اللصيقة بالإنسان، فلا يجوز تعطيله، أما انهاء تلك الحياة فليس بحق بل اعتداء على الحق، وإن كان الأمر قد يدفع بالقاض الي أخذ المتهم بقسط من الرأفة في الحدود التي تسمح بها المادة 17 من قانون العقوبات إذ أننا أمام إنسان يعتقد أن يفعل الخير حين أنه يقتل.
رأى علماء الدين والأزهر الشريف
أما الأزهر الشريف فقد سبق له التصدي لهذه الإشكالية، عقب ورود سؤال عن حكم الدين الحنيف في القتل الرحيم، بمعنى أن يطلب المريض من الطبيب إنهاء حياته بسبب شدة ألمه أو إعاقته، أو يقرر الطبيب من تلقاء نفسه أنه من الأفضل لهذا المريض أن يموت على أن يعيش معاقا أو متألما، حيث استدل علماء الأزهر الشريف على تحريم القتل الرحيم، بآية: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة، 195) وآية "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" (النساء، 29)، تأسيسا على ذلك، يقول هؤلاء أن حياة الإنسان يجب أن تصان وأن يحافظ فيها على بدنه.
شيخ الأزهر الأسبق، محمد سيد طنطاوي، كان قد رفض سابقا كل الزوبعة المثارة حول موضوع القتل/الموت الرحيم، مؤكداَ أن قتل المريض الميؤوس من شفائه ليس قرارا متاحا من الناحية الشرعية للطبيب أو لأسرة المريض أو للمريض نفسه حتى. بيد أنه بجانب ذلك، يقر الشيخ بأن الأمر يختلف عن حالات الوفاة المخية، حيث يجوز للطبيب أن يفصل الأجهزة الطبية عن المريض ليتوقف قلبه إذا تأكد أن عودته للحياة مستحيلة.
وعليه وفي واقعة السؤال: فإن القتل الرحيم بشقيه المنوه عنهما في السؤال لا يجوز شرعًا وهو من الكبائر كما جاء في جملة أحاديث عن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الأطباء أن يعلموا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فمهما طلب المريض مثل هذا المطلب فلا يستجيبون له ولا يقتلون النفس بغير حق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة