فى الوقت الذى يمثل فيه تفشى "كورونا"، أزمة كبيرة تواجه العديد من دول العالم، يبدو أنه يمثل فرصة مهمة للقوى الدولية الجديدة، من أجل توطيد نفوذها فى العديد من المناطق، فى إطار دبلوماسية "التضامن" التى ولدت من رحم الفيروس، عبر مساعى عدة قوى لتقديم الدعم للدول المنكوبة، وهو ما يساهم فى إحياء تحالفات قديمة، من جانب، أو خلق تحالفات جديدة، من شأنها توطيد المكانة الدولية للدول الصاعدة بقوة على قمة النظام الدولى، وعلى رأسها روسيا والصين، والتى تتجه بقوة نحو ملء الفراغ الأمريكى الناجم عن سياسات التخلى التى تبنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، تجاه الحلفاء والخصوم فى أن واحد، سواء سياسيا أو أمنيا أو اقتصاديا، وأخيرا على الجانب الصحى.
ولعل الرسالة التى بعث بها الرئيس الصينى شى جين بينج، إلى نظيره الإيرانى حسن روحانى، والذى أعرب خلالها عن استعداد بكين لتقديم كل المساعدات الممكنة، لمكافحة فيروس "كورونا"، سواء من خلال إرسال أدوية أو خبراء متخصصين يمكنهم تقديم المساعدة فى احتواء الأزمة، دليلا دامغا على مساعى الصين لتقديم خبرتها لمساعدة قوى دولية وإقليمية أخرى، فى مكافحة المرض الذى أثار حالة من الهلع غير المسبوق، فى كل أرجاء العالم، وعلى رأسها إيران، والتى تعد أحد أكثر الدول المنكوبة جراء تفشى الفيروس، مما أسفر عن وفاة قطاع كبير المواطنين والمسئولين الإيرانيين، فى انعكاس صريح لحجم الأزمة التى تواجهها الدولة الفارسية فى المرحلة الراهنة.
رسالة بكين.. الصين تنجح فى اختبار "كورونا"
وعلى الرغم من أن الرسالة الصينية تبدو أمرا طبيعيا فى ظل الانتشار المتفاقم للفيروس، والذى يصل إلى حد "الأزمة الدولية"، إلا أنها تحمل فى طياتها العديد من الأبعاد، وعلى رأسها الترويج لنجاح التجربة الصينية، خاصة وأن الفيروس اندلع من إقليم ووهان، والذى يعد بؤرة الانتشار، حيث تجاوز محيطه الجغرافى ليضرب مناطق أخرى فى العالم، إلا أن الحكومة الصينية نجحت باقتدار فى احتواء الأمور فى زمن يبدو قياسيا، فى الوقت الذى فشلت فيه دول أخرى، تبدو أكثر تقدما، فى التعامل مع الأزمة، مما دفعها إلى إغلاق أقاليم بأكملها، على غرار ما تشهده إيطاليا فى الوقت الراهن.
ويعد تفشى فيروس كورونا من الأراضى الصينية، بمثابة اختبارا حقيقيا للصين، وقدرتها على التعامل مع مثل هذه الأزمات، حيث كانت التوقعات تدور حول عدم قدرتها على احتواء الأمور بسرعة، مما يساهم فى عرقلتها، ولو مرحليا، خاصة على الجانب الاقتصادى، فى المرحلة المقبلة، فى ظل خلافات عميقة، تصل إلى حد الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، بدأت منذ اعتلاء الرئيس ترامب عرش البيت الأبيض، إلا أن نجاحها المنقطع النظير قدم برهانا جديدا، ليس فقط على قدرة الصين على التعامل مع أزماتها الداخلية بكفاءة كبيرة، وإنما أيضا قدرتها على تجاوز النطاق المحلى، إلى نطاقات أكثر اتساعا سواء إقليميا أو محليا.
رسالة أكثر تضامنا.. بكين تتجاوز المنافسة إلى "الخصومة" مع واشنطن
وفى الوقت الذى أرسل فيه الرئيس الصينى رسائل مماثلة لكلا من كوريا الجنوبية وإيطاليا، إلا أن رسالته إلى إيران تبدو أكثر تضامنا، ففى رسالته إلى إيطاليا، أعرب شى عن ثقته فى قدرات الحكومة على تجاوز الأزمة، بينما اكتفى بدعم الجهود الكورية الجنوبية فى مواجهتها، بينما أكد على استعداد بلاده لتقديم أكبر قدر من المساعدة لطهران، لاحتواء الفيروس المتفشى، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لأولويات بكين السياسية فيما يتعلق بالجهود الإنسانية التى تسعى لتقديمها إلى مختلف دول العالم فى المرحلة الراهنة، وهو ما يحمل رسالة مهمة للمجتمع الدولى فى ظل الإعداد لنظام دولى جديد، متعدد الأقطاب، تسعى الصين للمشاركة فيه بدور قيادى فعال، عبر مزاحمة الولايات المتحدة.
التضامن الصينى القوى مع إيران يحمل فى طياته بعدا مهما، يتجسد فى حالة العداء الراهن بين واشنطن وطهران، ففى الوقت الذى تسعى فيه الولايات المتحدة إلى ممارسة كافة أنواع الضغوط على الحكومة الإيرانية، عبر استغلال أزمتها الإنسانية، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية، تسعى الصين إلى إحياء تحالفها القوى مع طهران، والذى توارى قليلا فى أعقاب التوقيع على الاتفاق النووى الإيرانى فى يوليو 2015، فى ضوء الانفتاح الإيرانى على الغرب، بينما تحاول وضع نفسها فى دائرة "الخصم" فى مواجهة الولايات المتحدة.
وهنا يمكننا القول بأن بكين تسعى لتقديم نفسها على الساحة الدولية، ليس فقط كقوى مؤثرة، وإنما أيضا باعتبارها خصم للولايات المتحدة، عبر تحدى الكبرياء الأمريكى، من خلال تقديم الدعم لألد خصوم إدارة الرئيس دونالد ترامب، حيث ظهر العداء بينهما منذ اليوم الأول لرئاسته، وتجلى فى العديد من القرارات، تراوحت بين الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى، ثم حزمة العقوبات التى فرضتها واشنطن على طهران، وانتهاءً باستهداف قائد فيلق القدس بالحرس الثورى قاسم سليمانى، والذى قتل فى غارة أمريكية بالعراق، فى خطوة أثارت التوقعات باندلاع الحرب بين الجانبين.
فروض الولاء.. دعم الصين لحلفاء أمريكا "مشروط"
إلا أن التحرك الصينى لم يقتصر فى أبعاده على مجرد تقديم الدعم لطهران، حيث تبقى الفرصة مواتية لدول أخرى، للفوز بدعم بكين، وعلى رأسهم حلفاء واشنطن فى آسيا وأوروبا، وهو ما بدا فى رسائل شى لكلا من إيطاليا وكوريا الجنوبية، إلا أنها تبقى فرصة مشروطة، فى ظل المعطيات الدولية الجديدة، وعلى رأسها حالة التخلى الأمريكى عن الحلفاء، وهو ما بدا واضحا فى العديد من السياسات الأمنية والاقتصادية، على غرار الإجراءات الجمركية غير المسبوقة على الواردات القادمة منهم إلى أراضيها، وكذلك الرغبة الأمريكية العارمة فى تخفيف الالتزامات العسكرية تجاه الحلفاء فى العديد من مناطق العالم.
وهنا يمكننا القول بأن الدعم الصينى يبقى مشروطا بتقديم فروض الولاء والطاعة لبكين، فى إطار رغبتها العارمة فى مزاحمة واشنطن فى مناطق نفوذها الرئيسية فى العالم، وهو الأمر الذى يفتح أفاقا جديدة للنفوذ للدولة الصاعدة بقوة على قمة النظام الدولى، رغم المحاولات الأمريكية لكبح جماحها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة