على الرغم من التصريحات التي أدلت بها وزارة الخارجية الأمريكية، الخميس الماضى، والتي أبدت قدرا من التعاطف مع تركيا، بعد الغارة التي شنها الجيش السورى، في إدلب، والتي أسفرت عن مقتل 34 جندي تركى، تبقى حالة من الصمت الأمريكي، في انعكاس صريح لما يمكننا تسميته بـ"الطبيعة الاستهلاكية" للتصريح، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار العديد من الأبعاد، أبرزها عضوية أنقرة، التى مازالت قائمة في حلف الناتو، بالإضافة إلى الموقف العدائى المعلن من قبل واشنطن تجاه النظام السورى، على خلفية المبادئ القديمة، التى طالما تشدقت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة حول حقوق الإنسان، وذلك رغم تغير كبير في طبيعة العلاقة بين واشنطن ودمشق خلال حقبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
التصريحات الأمريكية ربما تمثل في ظاهرها دعما لتركيا، في الوقت الذى تحمل فيه في طياتها شروطا، وذلك بعد سنوات من المروق، في ظل تقارب بين أنقرة وموسكو، على خلفية الأزمة السورية، عبر الانضمام لمنصة "أستانا"، التي دشنها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، والتي ساهمت في تقويض منصة الغرب "جنيف"، بينما امتد التعاون إلى الحصول على منظومة الدفاع الروسية "إس 400"، وهو ما يمثل انتهاكا صريحا لقواعد التحالف، الذى طالما مثل رمزا للمعسكر الغربى، منذ حقبة الحرب الباردة، وهو الأمر الذى لم يجد قبولا من جانب الولايات المتحدة، حيث قررت عدم إمدادها بطائرات "إف 35"، عقابا على تقاربها مع الخصم التاريخى للغرب.
دعم "استهلاكى".. الغرب سلم أردوغان إلى روسيا
الدعم "الاستهلاكى" الأمريكي لتركيا، لم يخرج عن نطاق كلمات أدلت بها الخارجية الأمريكية في أعقاب الهجوم السورى على قوات أردوغان في إدلب، في الوقت الذى حث فيه الرئيس دونالد ترامب على خفض التصعيد في المدينة السورية، بينما بقى الناتو بعيدا عن أي تدخل في مستنقع الصراع في سوريا، في ظل عدم وجود أي رغبة من قبل الغرب في الدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا، والتي تعد صاحبة الكلمة العليا في الأزمة، منذ تدخلها على خط الأزمة في 2015، وهو الأمر الذى باركته واشنطن نفسها ضمنيا بعد قرارها بالانسحاب من الأراضى السورية منذ عدة أشهر، في الوقت الذى سمحت فيه موسكو بعمليات أمريكية نوعية في إطار الحرب على الإرهاب، أبرزها الغارة الأمريكية التي قتلت زعيم تنظيم داعش الإرهابى أبو بكر البغدادى.
الإحجام الغربى عن الدخول على خط الأزمة في إدلب، يمثل امتدادا صريحا لأزمة الديكتاتور التركى رجب طيب أردوغان في المرحلة الراهنة، حيث يبقى في مواجهة موسكو وحيدا، بدون حلفائه، في الوقت الذى تقدم فيه الحكومة الروسية الدعم الكامل، سواء سياسيا أو عسكريا للنظام الحاكم في دمشق، خاصة فيما يتعلق بالإجراءات المرتبطة بتطهير كل أراضى سوريا من بقايا التنظيمات الإرهابية، وتحديدا في إدلب، والتي تعد أخر معاقلهم، وهو الأمر الذى يقوض تماما أي طموح تركى في تحقيق أحلام الهيمنة عبر دمشق.
مناورات مع اليونان.. واشنطن لا تكتفى بتجاهل الديكتاتور
إلا أن واشنطن ربما لم تكتفى بمجرد تجاهل الديكتاتور التركى في محنته الحالية في سوريا، وإنما اتخذت خطوات عملية من شأنها تشديد الخناق عليه في المرحلة الراهنة، حيث تزامنت مأساة أردوغان فى إدلب مع مناورات مشتركة أجرتها الولايات المتحدة مع اليونان، والتي تعد أبرز خصوم تركيا في أوروبا، في إطار تعزيز التعاون العسكرى بين البلدين، وهو الأمر الذى يزيد الضغوط على كاهل أنقرة، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار رغبة أنقرة في لى ذراع الغرب عبر "تصدير" الإرهاب، في صورة لاجئين، إلى دول القارة العجوز، وهو الأمر الذى يثير حالة من القلق لدى دول أوروبا في المرحلة الراهنة بسبب مخاوف أمنية مرتبطة باحتمالات تسلل عناصر إرهابية بين المهاجرين، يمكنهم تنفيذ عمليات في قلب الغرب الأوروبى.
محاولات أردوغان استخدام ورقة اللاجئين تمثل امتدادا لمحاولات ابتزاز أوروبا، ومن ورائها دول المعسكر الغربى، حيث يسعى إلى إجبارهم على الدخول على خط الأزمة السورية، ومواجهة روسيا، إلا أن محاولاته باءت بالفشل، في ظل تقارب ملموس بين القارة العجوز وموسكو، في المرحلة الحالية، سواء في مجال الطاقة أو حتى في المواقف الأوروبية الأخيرة تجاه روسيا، حيث أعلنت دولا أوروبية مؤخرا، على غرار فرنسا، أن روسيا لم تعد خصما للغرب كما كانت في الماضى.
رسالة واشنطن.. أمريكا ترغب في "إذلال" الديكتاتور
رسالة واشنطن لأردوغان ليست جديدة على الإطلاق، فقد سبق وأن لعب الرئيس ترامب دورا بارزا في إجبار الديكتاتور التركى على العودة للوراء، بعد عدوانه على منطقة الشمال السورى، لدحض الأكراد، والذين تضعهم أنقرة في قائمة التنظيمات الإرهابية لديها، في إطار محاولة لإحياء تنظيم داعش الإرهابى، حيث فرض عليه وقف إطلاق النار، قبل أن يتلقفه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ليفرض عليه اتفاقا يقوم على الالتزام بالمنطقة الحدودية، بينما أصبحت الشرطة العسكرية الروسية هي المهيمن الفعلى على الأمور هناك.
وهنا يمكننا القول بأن إدارة ترامب تتبنى سياسة دقيقة، تجاه تركيا في ظل التطورات التي تشهدها الساحة السورية، تقوم في الأساس على الاكتفاء بالتصريحات، التي تبدو في ظاهرها داعمة لأنقرة، بينما في الوقت نفسه تحمل في طياتها رغبة عارمة في إذلال "الديكتاتور"، وعقابه على مروقه خلال السنوات الماضية، وعصيانه للأوامر الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بعدم الحصول على منظومة "إس 400" الروسية، ليصبح أي دور أمريكى لإنقاذ أنقرة من مأزقها الراهن، مرهونا بتقديم أردوغان لـ"قرابين" الولاء وفروض الطاعة لسيد البيت الأبيض من جديد، دون أية شروط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة