قدم الدكتور مصطفى وزيرى الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، دراسة جديدة لرصد تاريخ يوم "شم النسيم" بمصر القديمة، حيث أنه من التراث الأدبى الذى خلفه لنا القدماء المصريون، والذى يصف للجميع مشاهد الاحتفال بأعياد الربيع وعيد "شم النسيم".
وكانت أبرز الكلمات بتلك النصوص: "اقض يوماً سعيداً، وضع البخور والزيت الفاخر معاً من أجل أنفك، وضَع أكاليل اللوتس والزهور على صدرك، بينما زوجتك الرقيقة فى قلبك جالسة إلى جوارك، فلتكن الأغانى والرقص أمامك واطرح الهموم خلفك ولا تتذكر سوى الفرح، إلى أن يحلّ يوم الرسو فى الأرض التى تحب الصمت".
ويضيف الدكتور مصطفى وزيرى لـ"اليوم السابع" فى دراسته حول عيد شم النسيم وأعياد الربيع، أنه عاش المصرى القديم أعياداً دينية واجتماعية وأخرى زراعية، حيث أقام خلالها احتفالات الخاصة والتى اشتملت على إقامة الشعائر والطقوس وربما تلك الشعائر والطقوس هى التى ميزت حضارتنا عن باقى حضارات العالم القديم، وبعض هذه الأعياد لازالت فى ذاكرة المصريين حتى يومنا هذا مثل "عيد شم النسيم"، مؤكداً على أنه اهتم أجدادنا بقدوم فصل الربيع الذى شهد أهم الأعياد الزراعية والاجتماعية فى مصر القديمة عيد "شمو"، أو ما يعرف فى يومنا هذا بـ"عيد شم النسيم" فكان مناسبة لديهم لإقامة أفراح تُغنى فيها أناشيد جماعية تنشدها السيدات النبيلات المشتركات فى المواكب مع أصوات القيثارات وأغانى الغرام والأناشيد المصاحبة لحركات الرقص، فهو عيد قومى خاص بالطبيعة والزراعة عند القدماء وليس مناسبة دينية، فلم تكن حياتهم مجردة من الاستمتاع بجمال الحياة ونشر روح السرور والبهجة.
ويؤكد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، فى دراسته، على أنه تعنى كلمة "شمو" فى اللغة المصرية القديمة "الحصاد"، وهناك من يذهب بأن لفظ "شم النسيم" مركبة من كلمة شمو "حصاد"، و"آل" بمعنى "نبات" والتى تدل على أن الاسم لم يُحرف ثم أُدخلت كلمة "نسيم"، والتى تعنى الجو المعتدل أثناء الريح اللينة. فى يوم عيد شم النسيم كان الناس يقضى يومهم فى التنزه فى المساحات الخضراء على النيل والاستمتاع بالطبيعة، ولقد مَثلَ "شم النسيم" عن القدماء المصريين بعثا جديداً للحياة كل عام وفيه تتجدد وتزدهر الطبيعة بكل ما فيها، كما اعتبروه بداية جديدة يبدءون به نشاطهم لعام جديد، وكان ازدهار الثمار والزهور وانتشارها يبشر ببداية موسم الحصاد، فيملأون مخازن الغلال بعد حصاد الحقول.
ويضيف وزيرى، أنه تميز عيد "شم النسيم" فى العصور الفرعونية بعادات خاصة بالطعام وكان لكل طعام مدلوله الخاص مثل رؤوس الخس، وذلك لاعتقادهم أن الخس له خواص مقوية جنسياً وارتبط بالإله "مين" رب الخصوبة، وكانوا يتناولون فيه البصل والسمك والبيض والملانة (الحمص الأخضر)، وارتبطت جميعها بتجدد الحياة وظلت هذه المأكولات مظهراً ثابتاً من مظاهر الاحتفال بأعياد الربيع فى مصر مروراً بالعصر القبطى وبات تناول المصريين لتلك الأطعمة من العادات الباقية والموروثة حتى اليوم، كما ترمز "البيضة" عند المصرى القديم لبداية الخلق الجديد والتجدد فى عقيدة المصرى القديم، وهى من رموز البعث وعرفها المصرى القديم باسم "سوحت" وفى بعض الأحيان كان المصرى القديم ينقش عليها بعض أمنياته وكان يضع البيض فى سلال من النخيل، وكان لتناول نبات "البصل" أهمية كبيرة أيضاً خلال الاحتفال بـ"شم النسيم"، حيث تذكر أحد الأساطير أنه كان سبباً فى شفاء أمير صغير من أحد الأمراض حيث كان يُوضع تحت وسادته ويستنشقه وقت شروق الشمس وكتب له الشفاء فى يوم وافق احتفال المصريين بعيد "شم النسيم".
وقالت الدراسة، أنه تناول المصريون القدماء السمك المجفف المعروف حالياً بـ"الفسيخ"، وحملت مدينة "إسنا" فى جنوب مصر فى العصر البطلمى اسم "لاثينوبوليس" أى مدينة سمك قشر البياض، وجدير بالذكر أن سمك قشر البياض كان أكثر أنواع الأسماك استهلاكاً للطبقة الغنية فى مصر القديمة، وقد عُثر على بقايا أسماك مجففة فى مواقع كثيرة منها موقع "عمال بناة الأهرام" بالجيزة من عصر الدولة القديمة، والسمك المملح وٌصف فى بردية "ايبرس" أنه أستخدم كوقاية وعلاج من ضربات الشمس، وصُنع السمك المملح فى ورش خاصة ويظهر ذلك فى نقوش مقبرة "رخميرع" من عصر الدولة الحديثة، بالإضافة للعديد من أنواع الأسماك الأخرى التى رسموها على جدران مقابرهم مثل سمك البورى والشبوط والبلطى والبياض والقرموط وغيرها. وفى أحد الأعياد كان جميع أفراد الشعب يأكلون السمك المقلى أمام أبواب المنازل فى وقت واحد. وكانت مظاهر الاحتفالات بقدوم الربيع تقام دائما على ضفاف النيل ووسط الحدائق والساحات المفتوحة وهو الأمر الشائع لدى جموع المصريين حتى اليوم.
ومن الجدير بالذكر أنه كان للزهور مكانه كبيرة فى نفوس المصريين، إذ كانت زهرة اللوتس هى رمز البلاد، كما كان يقدمها المحبوب لمحبوبته وتزخر المقابر التى تركها لنا قدماء المصريين بنقوش ورسومات على جدرانها لصاحب المقبرة، وهو يشق طريقه فى قارب وسط المياه المتلألئة بينما تمد ابنته يدها لتقطف زهرة لوتس، وكانت أعواد اللوتس تقدم ملفوفة حول باقات مشكلة من نبات البردى ونباتات أخرى، كما تشكل باقات الورود اليوم، كما ترى أعمدة المعابد الفرعونية مزخرفة فى طراز "لوتسي" يحاكى باقات براعم الزهور، وقد صور المصريون أنفسهم على جدران مقابرهم ومعابدهم وهم يشمون الأزهار فى خشوع يرجع بعضه إلى الفرحة ويوحى بسحر الزهور لديهم.
ويؤكد أمين الأعلى للآثار، أنه حظيت زهرة اللوتس بمكانة كبيرة فكانوا يطلقون عليها اسم "الجميل"، وكان المصرى القديم يقضى أكثر الأوقات بهجة فى فصل الربيع وكان يحرص على ارتداء الملابس الشفافة ويهتمون بتصفيف الشعر ويكثر من استخدام العطور والأدهنة لإظهار جمالهم، وهكذا كانت وستظل عودة الربيع التى تتميز بتفتح الزهور تُقابل دائما بفرح وترحاب من عامة المصريين وخاصتهم على مر العصور، واعتاد قدماء المصريين الاحتفال بالأعياد للخروج من حدود حياتهم اليومية الضيقة. وقد سجلت نقوش ونصوص معابد مدينة هابو الشهيرة غرب الأقصر الطقوس وأحداث 282 عيدا عرفتها مصر القديمة عبر الزمان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة