أدخلني رجل الأمن الذي يجلس أمام مكتب جريدة "الحياة اللندنية" في مقره بحي جاردن سيتي ، بعد أن أخذ بطاقتي وملأ منها بيانات في دفتر موجود أمامه..كان هذا الإجراء جديدا عليِ، وأنا الذي أعمل في المكتب منذ 3 شهور.. كنا في شهر مارس 1989، وكان أيمن نور هو مدير المكتب حتي اليوم السابق علي هذا الإجراء معي، وكانت "الحياة" تكسب كل يوم أرضية جديدة في عالم الصحافة بتميزها المهني منذ بداية صدورها في شهر أكتوبر عام 1988.
كان من نجوم المكتب عدد من الأصدقاء هم الآن من كبار الصحفيين، أبرزهم الأساتذة مجدي شندي، وعبد الحكيم الأسواني، ومحمد رضوان، وفيما بعد انضم الأستاذ طارق المهداوي وكان يعمل في الهيئة العامة للاستعلامات ،كما كان موجودا في الفريق الأساسي الأستاذ جمال أبوالفتوح من الوفد، وكنت أنا وافدا مستجدا، حيث كنت أعمل في مركز "صاعد" للخدمات الصحفية، لكن حدث تعثر في المكان جعلنا نبحث عن أماكن بديلة مؤقتا حتي تزول الغمة، فذهبت أنا إلي "مكتب الحياة"، وكان راتبي في الشهر مائة جنيه مصريا ،علي أساس الحضور نصف أيام الأسبوع.
بعد ثلاثة شهور من عملي، اجتمع بنا أيمن نور وطالبنا بإرتداء بدلا كاملة في الغد لأن هناك زائر مهم سيأتي من المقر الرئيسي في لندن، وشدد علي بعض التنبيهات كوجودنا مبكرا ،بالإضافة إلي كيفية إدارة الكلام مع الضيف في حال اجتماعه بنا، وفي اليوم "الموعود " قطعت مسافة السفر من مقر إقامتي بقريتي "كوم الأطرون، طوخ، قليوبية" مرتديا بدلتي، المكونة من، جاكت رمادي وبنطلون أسود وكرافت أسود بخطوط بيضاء وقميص أبيض، وكان هذا الطاقم الرسمي هو الثاني لي في حياتي، أما الأول فكان بدلة كاملة قمت بتفصيلها وأنا في السنة الثالثة من دراستي الجامعية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.
كانت الساعة العاشرة صباحا حين وصلت، وإذا بمفاجأة أمامي لم تكن في الحسبان وهي، وجود أيمن نور وبعض الزملاء أمام مدخل العمارة في مشهد لافت.. كان أيمن مسنودا علي سيارته، وكانت بنية اللون، وعلي ما أتذكر كانت ماركة "فولفو " وحوله عدد قليل من الزملاء في المكتب منهم زميلة اسمها "سحر" لا أعرف أين هي الآن، المهم دخلت عليهم ،وألقيت التحية وبدا وجه أيمن مكفهرا.. سألت :"فيه إيه يا جماعة ؟"، فتطوعت الزميلة "سحر" بالقول :"حصل انقلاب وجابوا واحد تاني مدير للمكتب، واحنا حنعتصم"..سألت عن باقي الزملاء ..أين هم، وهل لوفيه اعتصام سيشاركون فيه أم لا؟.
أبلغوني أن باقي الزملاء موجودون في المكتب، فلعب الفأر في عبي، وأستاذنت للصعود ،فوجدت رجل أمن خاص يجلس أمام الباب، وبالصدفة العجيبة كان مساعدا متطوعا في الجيش في نفس الوحدة التي كنت مجندا فيها وخرج علي المعاش ، وكان يتمير بحس أمني فائق ويعشق جمع المعلومات، ولما شاهدني عانقني، قائلا :"انا منتظرك، اسمك في كشف عندي، الكشف فيه كل الصحفيين اللي بيشتغلوا في المكان"..سألته :"إيه الحكاية؟"..أجاب :" أدخل وانت تعرف، فيه مصايب "، وسلمني إلي زميل آخر له الذي سلمني بدوره إلي موظف جديد، وطلب مني الموظف الانتظار قليلا، ودخل حجرة مكتب المدير التي كان يشغلها "أيمن نور" ثم خرج، طالبا مني الدخول .
وجدت أمامي الرجل الذي جاء من "لندن" وارتدينا البدل الكاملة من أجله، كان لبنانيا، ورحب بي بلطف لبناني معهود، وجلس وكان أمامه فايل يحتوي علي مجموعة أوراق، أخرج منه ورقة، واستأذنني بلطفه في أنه يريد الاستفسار مني عن بعض المعلومات، التي دارت حول ماذا كنت أفعل ؟" ..وماهو راتبي؟ .. وهل بالجنيه المصري أم بالاسترليني؟.. وكيف كنت أتقاضاه؟.
أجبت علي كل شئ بما في ذلك أنني أحصل علي الراتب من موظف وأوقع علي إيصال، سألني عن شكل هذا الإيصال، فأجبت بالحقيقة وهي، أن الإيصال كان من دفاتر إيصالات عادية يتم بيعها في دكاكين البقالة، كانت الأسئلة مريبة وتحمل وراءها ما يثير الانتباه.
اختتم الرجل كلامه معي قائلا :"أستاذ سعيد فيه إدارة جديدة للمكان، ولك حرية الاختيار في أن تستمر في العمل مع الإدارة الجديدة، أو تكتفي، وفي حالة عدم الاستمرار، سنصرف لك مكافأة تشمل ثلاث شهور علي الثلاث شهور التي عملتها" أي 300 جنيه .
أضاف :"إذا لم تكن مستعدا لاتخاذ قرار الآن أمامك حتي الغد لتقرر، وستبلغ الدكتور عمرو عبد السميع مدير المكتب الجديد برأيك ،لأنني سأسافر إلي لندن مساء"..فطلبت التأجيل حتي اليوم التالي .
ذهبت في اليوم التالي، وكنت قررت عدم الاستمرار خاصة وأن ظروف "صاعد" تحسنت وهو مكاني وانتمائي الأصلي ..قابلت الدكتور عمرو، الذي كان ودودا ولطيفا جدا معي، وتحدثنا قليلا، ثم سألني عن قراري ، فأبلغته، فرد بود :"لوكنت حتستمر، أهلا بك، وكنا حنتكلم حالا في المطلوب منك صحفيا، والمطلوب منا ماديا، لكن لك حرية القرار"، ثم أحالني إلي الموظف المختص لإنهاء مستحقاتي.
مرت سنوات، وفي مكتب جريدة البيان الإماراتية وكنت نائبا للدكتور محمد السيد سعيد في رئاسته له والذي شغله شهورا قليلة عام 2005 خلفا لنقيب الصحفيين الأسبق جلال عارف، إذا بي أشهد الدكتور محمد في شدة الغضب من احتمال أن يتولي الدكتور عمرو رئاسة تحرير الأهرام خلفا لإبراهيم نافع، وكان اسمه ضمن أقوي المرشحين، وكشف لي دكتور محمد أسبابه، ومساعيه لدي إبراهيم نافع كي يتدخل لدي الرئاسة لإلغاء هذا الترشيح، ودفعه لاسم أسامة سرايا.
في عام 2008 كنت أواصل عملي مديرا لتحرير اليوم السابع، وكنا نصدر العدد أسبوعيا في تجربة متفردة صحفيا، وكنت حريصا في نفس الوقت علي عمل تحقيقات وحوارات صحفية في كل عدد، وبعد فترة وجدت رسالتين متتاليتين منه عبر أحد الأصدقاء الذي يعمل معنا وعلي صلة وثيقة به تعبران عن إعجابه الشديد بموضوعاتي وأسلوب كتابتها، ثم كان اتصاله بي ليقول لي نفس الشهادة ، واستمر تواصلنا، حتي كانت تجربته معنا في اليوم السابع في الفن الصحفي الذي تميز به وهو الحوارات الصحفية، هذا الفن الذي أبدع فيه منذ تجربته الأولي فيه في"الأهرام الاقتصادي " في الثمانينيات من القرن الماضي، والذي تعملت منه كثيرا، وفي اليوم السابع أحال رئيس التحرير الصديق الأستاذ خالد صلاح مراجعة حواراته لي ، وفوضني الدكتور عمرو في التعامل معها كيفما أري ، وخلال ذلك تعمقت بيننا الحوارات التي لم تخلو من المناكفات السياسية لاختلافنا الكبير فيها، لكنه بقي علي وده معي وانسانيته الرائعة.. ربنا يرحمك يادكتور عمرو .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة