نواصل مع المفكر العربى الكبير "جواد على" تتبع أحداث ونهاية الشاعر العربى الكبير امرئ القيس بن حجر، الذى كان يلقب بالملك الضليل، وذلك من خلال كتابه "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام".
يقول جواد على:
وفى رواية تنسب إلى "الخليل بن أحمد الفراهيدى" أن رجالًا من قبائل "بنى أسد" فيهم "قبيصة بن نعيم" وكان فى بنى أسد مقيمًا، قدموا على امرئ القيس بعد مقتل أبيه، ليعتذروا إليه وليسووا قضية قتل والده، فرفض إلا الانتقام من "بنى أسد" قائلًا: "لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر فى دم، وأنى لن أعتاض به جملًا أو ناقة، فاكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد، وأما النظرة، فقد أوجبتها الأجنة فى بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل القلوب حنقًا وفوق الأسنة علقًا".
وتذكر الرواية أنه خرج إليهم بعد إبطاء دام ثلاثة أيام، وهو فى قباء وخف وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم السواد إلا بالثارات، فلما نظروا إليه، وبدر إليه قبيصة، يتكلم باسمهم معتذرًا، طالبًا الصفح عنهم، ودفع الدية عن حجر، أخبرهم، أن دم حجر لا يعتاض بجمل أو ناقة، وأنه لا بد من أخذه بالثأر، ثم أمهلهم حتى يجمع طلائع كندة، فيهجم عليهم.
وهناك روية أخرى تنسب إلى "أبى عبيدة" فى هذا المعنى المتقدم مآلها أن "بنى أسد" اجتمعت "بعد قتلهم حجر بن عمرو إلى ابنه امرئ القيس على أنه يعطوه ألف بعير دية أبيه، أو يقيدوه من أى رجل شاء من بنى أسد، أو يمهلهم حولًا. فقال: أما الدية، فما ظننت أنكم تعوضونها على مثلى. وأما القود، فلو قيد إلى ألف من بنى أسد ما رضيتهم ولا رأيتهم كفئًا لحجر، وأما النظرة فلكم، ثم ستعرفوننى فى فرسان قحطان أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة حتى اشفى نفسى وأنال ثأرى".
ونزل امرؤ القيس على "المعلى" أحد "بنى تيم بن ثعلبة" فأجاره ومنعه، ولم يكن للملكين: ملك العراق وهو المنذر ولا ملك الشآم أى ملك الغساسنة، اقتدار عليه، وقد بقى لديه زمانًا، ثم اضطر إلى الارتحال عنه، فذهب ونزل عند "بنى نبهان" من طيء، ثم خرج، فنزل بـ"عامر بن جوين الطاى" وهو أحد الخلعاء والفتاك، فبقى عنده زمانًا، ثم أحس منه مارًّا به، فتغفله، وانتقل إلى رجل من "بنى ثعل" فاستجار به، فوقعت الحرب بين "عامر" وبين "الثعلى"، فخرج ونزل برجل من "بنى فزارة" اسمه "عمرو بن جابر بن مازن" فأشار هذا عليه بالذهاب إلى "السموءل بن عادياء" بتماء فوافق فأرسله فى صحبة رجل من "فزارة" اسمه "الربيع بن ضبع الفزارى" كان يأتى السموءل، فيحمله ويعطيه.
فنزل عنده وأكرمه، ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى "الحارث بن أبى شمر" الغساني، ليوصله إلى قيصر، ثم أودعه امرؤ القيس ابنته وأدراعه وأمواله، وأقام ابنته مع "يزيد بن الحارث بن معاوية" ابن عمه وخرج، وكان المذى أشار على "امرئ القيس" بالتوجه إلى قيصر هو ذلك الرجل الفزاري.
ويظهر من غربلة كل هذه الروايات، أن مطاردة "المنذر بن ماء السماء" لامرئ القيس كانت أعنف شيء أصاب هذا الشاعر بعد مقتل والده، لقد أخافته وجعلته يتنقل من قوم إلى قوم، فر عنه من انضم إليه من عصبة حمير، ونجا فى جماعة من بنى آكل المرار، حتى نزل بالحارث بن شهاب فى بنى يربوع من حنظلة ومعه أدراعه الخمسة: الفضفاضة، والضافية، والمحصنة، والخريق، وأم الذبول، كن لبنى مرار يتوارثونها ملكًا عن ملك، فقلما لبثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يوعده بالحرب أن يسلم بنى آكل المرار فأسلمهم، ونجا امرؤ القيس ومعه ابن عمه يزيد بن معاوية بن الحارث وبنته هند، والأدرع والسلاح، ومال كان بقى عنده، ومضى إلى أرض طيء ونزل عند المعلى بن تيم الذى مدحه شاعرنا، فأقام عنده، واتخذ إبلًا، ثم خرج فنزل بعامر بن جوين على نحو ما ذكرت.
ويذكر الأخباريون أن "عمرو بن قميئة" كان قد رافق "امرأ القيس" فى سفره إلى "القسطنطينية" وقد أشير إليه فى شعر "امرئ القيس" كذلك.
ويذكرون أنه كان من قدماء الشعراء فى الجاهلية "وأنه أول من قال الشعر من نزار، وهو أقدم من امرئ القيس، ولقبه امرؤ القيس فى آخر عمره، فأخرجه معه إلى قيصر لما توجه إليه، فمات معه فى طريقه، وسمته العرب: عمرًا الضائع لموته فى غربة وفى غير أرب ولا مطلب" بل روى أنه كان من أشعر الناس. وأنه كان من خدم والد امرئ القيس، وأنه بكى وقال لامرئ القيس غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس شعرًا فيه.
أما خبر "امرئ القيس" مع الغساسنة فى طريقه إلى قيصر، فلا نعلم منه شيئًا، وليس فى شعره ما يشير إلى أنه ذهب إليهم رجاء التوسط فى الوصول إليه.
ويظهر من شعر لامرئ القيس، أنه سلك طريق الشام فى طريقه إلى "قيصر" وأنه مر بـ"حوران" وبعلبك وحمص وحماة وشيزر. أما ما بعد ذلك حتى عاصمة الروم، فلا نعرف من أمره شيئًا.
ويقول الرواة أن قيصر أكرم امرأ القيس، وصارت له منزلة عنده، وأنه دخل معه الحمام، وأن ابنته نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وأنه
نادمه، واستمده فوعده ذلك وفى هذه القصة يقول:
ونادمت قيصر فى ملكه ... فأوجهنى وركبت البريدا
ويذكرون أن "القيصر" أنجد "امرأ القيس" وأمده بجند كثيف فيه جماعة من أبناء الملوك، ولكن رجلًا من بنى أسد اسمه "الطماح" كان امرؤ القيس قد قتل أخًا له، لحق بامرئ القيس، وأقام مستخفيًا، فلما ارتحل "امرؤ القيس" اتصل بجماعة من أصحابه، اتصلوا بقيصر، وقالوا له: "إن العرب قوم غدر ولا نأمن أن يظفر بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه".
وفى رواية لابن الكلبى أنه ذهب إلى قيصر، وقال له: إن امرأ القيس غوى عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل فى ذلك أشعارًا يشهر بها فى العرب فيفضحها ويفضحك.
فبعث إليه حينئذ بحلة وشى مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له: إنى أرسلت إليك بحلتى التى كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلى بخبرك من مزل منزل.
فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم، وسقط جلده، فلذلك سمى "ذا القروح" ويستشهدون على قولهم هذا بشعر امرئ القيس.
ويذكر بعضهم أن امرأ القيس كان مصابًا بداء قديم، وقد عاوده فى ديار الروم، وهو عائد إلى دياره، فلما وصل إلى "أنقرة"، اشتد عليه المرض، فمات هناك. وأنه رأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك، فدفنت فى سفح جبل يقال له "عسيب"، فسأل عنها فأخبر بقصتها، فقال فى ذلك شعرًا.
ثم مات فدفن فى جنب المرأة، فقبره هناك.
ويرى بعض المستشرقين إن ذهاب "امرئ القيس" إلى "القيصر" "يوسطنيانوس" كان حوالى سنة "530" للميلاد، وأنه توفى فى أثناء عودته بين سنتى "530" و"540" للميلاد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة