"العودة من العالم الآخر".. عنوان يبدو مناسبا لتقييم حالة الجدل الراهنة، حول صحة زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، في ظل تقارير متضاربة، بعضها يؤكد وفاته، بينما ينفيها البعض الآخر، في الوقت الذى لم تخرج فيه تقارير رسمية من بيونج يانج للنفى أو التأكيد، اللهم إلا الحديث حول رسالة بعث بها كيم ليشكر فيها العاملين، لتصبح الساحة الدولية على موعد مع حالة أشبه إلى أفلام "الخيال العلمى"، والتي قد يعود فيها البطل إلى الحياة من جديد بعد الموت، مما يضفى قدرا من القداسة والقوة الخارقة للرجل الذى يقود أكثر الدول غموضا حول العالم، لتصبح زعامته السياسية للبلاد مقرونة بجانب من التقديس، فتتحول سلطته من السياسة المجردة، إلى أبعاد أخرى تبدو أوسع نطاقا، تحمل في طياتها قدرا من التأليه للرجل.
ولعل حالة تقديس الزعيم ليست بالأمر الجديد تماما في كوريا الشمالية، حيث أن ثمة معتقدا شعبيا سائدا، بين قطاع كبير من مواطني الدولة، وبل على نطاق أوسع يشمل شبه الجزيرة الكورية، يقوم على أن والد كيم، وهو كيم جونج إيل، قد ولد في جبل بايكتو المقدس، وهو الجبل الذى يحظى بمكانة مقدسة لدى سكان الكوريتين، باعتباه مسقط رأس مؤسس المملكة الكورية الأولى، ويدعى دانجن، والذى يراه قطاعا كبيرا من الكوريين باعتباره "إلها"، وهو ما يمثل انعكاسا للهالة التي يحظى بها الزعيم الحالي، والتي تمثل أحد أهم أدوات الشرعية التي يتمتع بها نظامه، رغم ما يثار من قبل العديد المناوئين له، حول سياسته القمعية والديكتاتورية في التعامل مع المعارضة السياسية.
تقديس الزعيم.. كيم يستمد شرعية قراراته من "الجبل المقدس"
سياسات كيم جونج أون لم تخرج كثيرا عن نطاق الاحتفاظ بهالته المقدسة، منذ صعوده إلى رأس السلطة في بلاده، فكان الصعود على الجبل المقدس هو بمثابة التمهيد للقرارات الهامة، حتى تحظى قراراته بقدسيتها، في عيون مواطنيه، وهو الأمر الذى تجلى بوضوح في العديد من المشاهد خاصة في السنوات الأخيرة، تزامنا مع الانفتاح الجزئى الذى تمتعت به الدولة المارقة على العالم، حيث امتطى الزعيم جواده، على سفح "بايكتو" قبيل المصالحة مع كوريا الجنوبية، كما حرص على زيارته برفقة نظيره الكوري الجنوبى مون جاى إن خلال زيارته التاريخية لبيونج يانج في عام 2018، وهو ما يحمل بعدا رمزيا يدور حول التطلع نحو العودة إلى الوحدة بين الكوريتين بعد عقود من الصراع الدامى منذ الحرب الكورية في الخمسينات من القرن الماضى.
كيم على سفح الجبل المقدس
ويعد اعتماد نهج "تقديس الزعيم" واضحا في الكيفية التي يتم بها استقباله، حيث تحرص الفتيات على البكاء "بحرقة" شديدة في حضرته، حيث تبقى دموعهن ليست دليلا على الحزن أو الفرح المبالغ به كما جرت العادة في تفسيرها، وإنما إشارة على الخشوع في حضرة الزعيم، الذى يصل في مرتبته إلى درجة الألهة، أو على الأقل باعتباره شخصا "مقدسا"، مما يضفى بعدا جديدا لشرعيته، تضاف إلى الجوانب السياسية الأخرى، وعلى رأسها سليل عائلة الحكم، بالإضافة إلى قيادته لحزب العمال الحاكم في البلاد منذ عقود طويلة من الزمن.
مزيد من الشرعية.. هل تعزز تقارير وفاة كيم قبضته في الداخل والخارج؟
وهنا يمكننا القول بأن التقارير المتواترة التي تراوحت بين وفاة كيم، وتدهور حالته الصحية بصورة كبيرة يصعب معها عودته إلى حياته الطبيعية وممارسة سلطاته، ربما تتحول إلى فرصة كبيرة، إذا ما عاد الرجل إلى الظهور مجددا، للترويج إلى أسطورة "عودة الزعيم" إلى الحياة، وهو الأمر الذى يساهم بصورة كبيرة في تعزيز صورته المقدسة لدى مريديه، داخل كوريا الشمالية، بل والخروج بها إلى نطاق أوسع، ليشمل الشطر الجنوبى من شبه الجزيرة الكورية، وهو ما يفتح الباب عن الحديث مرة أخرى عن احتمالات الوحدة بين الكوريتين، في ظل قناعة جزء كبير من أبناء المنطقة بضرورة العودة إلى التوحد، بعد نجاح الدولتين في تجاوز خلافتهما، في السنوات الماضية، إلى الحد الذى دفع كوريا الجنوبية إلى قيادة حملة دولية لانفتاح بيونج يانج على العالم، بالإضافة إلى دورها الكبير في انعقاد القمم التاريخية التي عقدها زعيم كوريا الشمالية مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب.
كيم وترامب
عودة كيم إلى الحياة، يفتح الباب على مصراعيه، ليس فقط لتعزيز قبضته على الداخل في كوريا الشمالية، وإنما ربما تمنحه قوة أكبر في التفاوض مع الخصوم الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، في ظل تعنت الأخيرة فيما يتعلق برفع العقوبات المفروضة على بيونج يانج، حيث تبقى صورته المقدسة في الداخل داعمه له في مواجهة الخصوم التاريخيين، حيث يبقى الزعيم في كوريا الشمالية هو بمثابة "المدافع الإلهى" عن البلاد في مواجهة الأعداء، وهى الرؤية التي توطدت عبر التاريخ في ظل الغزوات التي واجهتها البلاد، والتي ترجع إلى القرن السادس عشر، من قبل الصين وروسيا، ثم بعد ذلك من الإمبراطورية اليابانية، وحتى العداء للإمبريالية الأمريكية.
عودة الزعيم من الموت إلى الحياة.. معجزة لتعزيز عقيدة الجد
المعتقد الكوري الشمالى يقوم في الأساس على فكرة "القومية المقدسة"، فيما يسمى بـ"جوهر النقاء العرقى"، وبالتالي يبقى الدفاع عن العرق هو مهمة مقدسة يتوالاها الحاكم، الذى يبقى مقدسا هو الأخر في نظر شعبه، وهو ما يمثل أساس العقيدة "الجوتشية" التي تعد العقيدة التي يعتد بها مواطنو كوريا الشمالية، والتي أرساها كيم إيل سونج، وهو أول حكام كوريا الشمالية بعد انقسام شبه الجزيرة الكورية، وتقوم في الأساس على مبدأ "الاعتماد على الذات" في مواجهة الخصوم.
وهنا تبقى التقارير الأخيرة فرصة محتملة، لكيم جونج أون، لتعزيز، ليس فقط صورته المقدسة أمام شعبه، وإنما أيضا لتعزيز العقيدة "الجوتشية"، التي تبقى في حاجة إلى "معجزة"، أمام تابعيها، وبالتالي فإنها ربما تفتح الباب أمام تحقيق هذا الجانب من خلال أسطورة جديدة، تقوم في الأساس على "عودة الزعيم من الموت إلى الحياة".