حينما يمنحك القدر فرصة مخالطة كل أنواع البشر، تزامنت مع حس نقدي وفلسفي مزعج، فأنت إذن ضمن هؤلاء الذين كتب عليهم شقاء التفكير والتدبر والتحليل، غير أنها، وعلى كل ما بها من شقاء، فهي تكفل لك تكوين وجهة نظر دقيقة في خلق الله.
ربما كان محمود رياض، أو مجموعة من البشر يمثلون محمود رياض، أو يمثلهم، يعيشون على وجه الأرض، نزلت فيهم الآية الكريمة " يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا"
رب دقائق من المعرفة، سبقتها بعضاً من معلومات شخصية، كانت كفيلة لتقرأ هذه الآية الكريمة في وجه محمود رياض، وتراها مكتوبة، وتسمعها، على جبين محمود رياض، عندما تجالسه، فذاك البشوش الذي تحمل ملامحه عزاً ورفعة، لا تراهما إلا في وجه عزيز قوم، هدوءًا وثقة، لا تراهما إلا في وجه مقتدر، يؤمن أن الله كفيل به، وتكفل بحفظ أمواله وممتلكاته، لا في وجه فقير مؤمن فقط، فقد جمع محمود رياض كل صفات الثراء، دون أموال، وكل خصائص الغنى، دون حسابات لأوراق تعد، وتحسب بالأرقام، بل رصيد كبير من العزة والكرم، يرى ويسمع، ويحسب بالمواقف.
كل ذلك أنت لم تتعامل بعد مع محمود رياض، فلم يبدأ في إلحاحه عليك في عزومة لطعام أو لمشرب، ربما لا تستكمل أرقام نقوده التكفل بها، غير أن أرقام الكرم والعزة في نفس محمود رياض، كبيرة وعصية على العد.
أنت لازلت في حضرة محمود رياض
فمحمود رياض الذي يلح عليك لتقديم الواجب، ثم يعود للإلحاح ذاته مرات، سواء قدم لك أو لم يقدم، كان من أولئك الذين تعثروا، وتعسرت ظروفهم، للدرجة التي تجعل من غيره ساخطاً على البشر كلهم، غير أن هذا السخط المنطقي بحسبة الظروف والواقع، لم يعرف طريقاً لذلك الكريم البشوش، _ الذي من فرط إصراره على مجاملتك_ تشعر أنه امتلك الكون، ولا يعرف في أي شيء ينفق ويبذر، ويعطي بسخاء، ربما يدفع الجاهل لحسده على غنىً غير موجود، وأموالاً خاصمته، ورفضت حتى الوصول له بقدر تعبه وجهده وإصراره.
ذاتها الأموال الحمقاء التي لا تنتقي لمن تذهب، استعصت كثيرا على محمود رياض الذي لم يكن يوماً كسولا، أو ناقصاً لموهبة، أو متملقاً لصاحب قرار، غير أنها خيراً فعلت، فقد غابت عنه، وبقدر غيابها، تركت مكانها مساحات لعزة نفس، وجود وسخاء، وكرم وعطاء، تمكنوا من ملامح محمود رياض، أكثر ما تمكن منه "كورونا"، وبدت تلك الصفات مرسومة على وجهه، أكثر مما فعلت درجة حرارة جسده بسبب الفيروس، وتجسدت كل هذه الصفات في تعاملاته، للدرجة التي جعلته يوصينا وهو يموت، وينصحنا وهو يحتاج النصح، ويدعوا لنا وهو في أشد الحاجة للدعاء، ويرينا من الخير ما يجعله بئرا للخير لا ينضب حتى اللحظات الأخير في عمره، يعطي محمود رياض ويقدم، فهو من هؤلاء الذين خلقوا ليعطوا.. حتى اللحظات الأخيرة في حياته، يخاف محمود رياض على حياتنا، وفي الساعات الأخيرة من حياته، يعتذر لنا محمود رياض عن عدم القدرة على الرد علينا... يا الله، من أين لك كل هذا النبل يا محمود؟
محمود رياض الفقير الذي تحسبه غنيا، ليس فقط من التعفف، ولكنه الفقير الذي تحسبه ثريا من الكرم والجود والعطاء.... محمود رياض الخلوق الذي امتلك بشاشة في الوجه كفيلة بتغيير حال الكون، احتفظ بها حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، عندما حاول طمأنتنا عليه، ونصحنا بالحذر... فمحمود رياض قادراً على العطاء في كل اللحظات
محمود رياض، صاحب الذوق الرفيع، دمث الخلق، لم تمنعه الآلام، ولا الأوجاع، ولا الظروف، عن الاعتذار لنا عن عدم التواصل، رغم أنه غير مطالب بذلك، وله عذره المسبق، فهو الكائن نفسه الذي ما رأيته إلا شريكاً في حل مشكلة، أو توفيق أوضاع، أو إصلاح ذات بين، يختار أن تكون الكلمات القليلة المتبقية له في الحياة، عبارة عن "اعتذار"، و"نصح"، و"دعاء"، فجسد 41 عاماً من النبل، واختتمها بنبل، واعتذر لنا وهو يموت، ونصحنا بينما يحتضر، حتى الدعوة آثرها على نفسه وهو في أشد الحاجة لها، وقدمها لنا، بدلا من طلبها منا.... تحديداً كما عاش.. يقدم الذي يحتاجه، لا يطلبه.
رحمك الله يا محمود رياض، يا من عشت بيننا محمودا، وكنت رياضاً من النبل
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة