لن يستيقظ العالم فى صبيحة أحد الأيام على رسالة أو مُهاتفة أو خبر عاجل بانتهاء الأزمة وانحسار بِرَك الوباء دفعة واحدة. من الأساس لا أحد يعلم متى تنتهى محنة الإنسانية مع فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" على وجه اليقين، ومقابل الرؤى المتفائلة التى تُبشّر بتقلّص المخاوف وتجفيف الخسائر المُتنامية حاليا، فإن رؤى وتحليلات أخرى تُعلّق حبل الأمانى على غارب المستقبل الخفى، وتتوقّع ما هو أسوأ لسنة مُقبلة أو يزيد!
المشكلة التى تُغلق كل أبواب الاستشراف أن الأزمة الحالية ليست حربا يُمكن أن تنتهى بهدنة أو باتفاق سلام، وليست كسادا أو محنة اقتصادية يكفى لها أن تخصص الدول حزمة مساندة وتنشيط عاجلة. العالم يخوض صراعا مع كائن مجهرى غريب الأطوار، لا تتوافر بشأنه معلومات كاملة إلى الآن، لذا تصعب الإحاطة براهن الأزمة أو التنبؤ بسلوكيات الفيروس، وكل ما نملكه حتى اللحظة: خريطة من الإجراءات والتدابير، وقائمة من التوقعات والاحتمالات، وأفق مفتوح على آمال وتطلّعات ومخاوف ليست سلبية بالكامل، وليس مضمونا الوصول إلى ما فيها من إيجابيات فى الوقت المناسب!
وباء سريع وكائن غير مفهوم
حتى الآن لا تبدو الصورة واضحة بالكامل، حتى لدى المختصين من الأطباء وعلماء الأحياء الدقيقة. أكثر ما يثير الهلع فى الأزمة أن فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" يملك خصائص مقلقة على صعيد الانتشار والعدوى وفترات البقاء خارج الخلايا الحية، أما الأكثر إزعاجا فهو أن الفيروس أقرب ما يكون إلى جبل الثلج بالنسبة لنا، فما نعلمه عنه أقل كثيرا مما نجهل، وتتضاعف المخاوف مع ترجيحات أولية من باحثين وأطباء تنطوى على احتمالات أن تكون تلك المساحة الضخمة المجهولة ديناميكية، أى أنها حالة مُتغيرة على صعيد الخصائص والنشاط، وليست ثابتا يُمكن بناء المعادلة عليه والوصول إلى حلّ سليم لها بفضل القدرة على التحكم فى المتغيرات المرتبطة بالمصابين أو ظروف الإصابة ومستويات العدوى.
خلال يناير الماضى قالت منظمة الصحة العالمية إنه لا يتوفر لديها دليل على انتقال "كوفيد 19" بين البشر، فى إشارة إلى أنه ربما يختلف عن عائلة كورونا المعروفة ومنها فيروسا "سارس" و"ميرس"، أو أنه أقرب إلى عائلة "هانتا فيروس" التى تنتقل من القوارض للإنسان لكنها لا تنتقل بين البشر وبعضهم. المهم أن بيان الصحة المشار إليه دفع كثيرا من الدول إلى حالة من الاطمئنان، وتسبب فى تأخر اعتماد إجراءات جادة للمواجهة، إلى حد اتهام أطراف عديدة حاليا للمنظمة بأنها كانت السبب وراء انتشار الوباء.
الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أعلن فى إحاطته اليومية، الثلاثاء، أن بلاده قررت تعليق دعمها الدورى لمنظمة الصحة العالمية (واشنطن أكبر مساهم فى ميزانية الهيئة الدولية)، لأنها تقدم معلومات مغلوطة بشأن وباء فيروس كورونا المستجد بحسب تصريحه. وبعيدا عن احتمالات التوظيف السياسى سواء فى حديث ترامب، أو اتهامه للمنظمة بالانحياز للصين، أو حتى اتهام الصين نفسها بالتعمية وإخفاء الحقائق، فإن الأمر الوحيد المقطوع به أن الوباء الحالى يمثل خطرا حقيقيا، أولا لأنه شره وسريع التفشى، وثانيا لأننا عاجزون عن فهمه والإحاطة به حتى الآن، والأهم أننا لم نكن جاهزين لتلك النوعية من الأزمات طويلة المدى، وتلك النقطة وحدها ستكون سببا فى إرباك الحسابات وإطالة أمد المحنة.
متى يتوقف الوباء؟
رغم ملامسة مستوى مليون ونصف المليون إصابة حتى الأربعاء، وتسجيل نحو 85 ألف وفاة بنسبة تتجاوز 5.6% مع انتشار فى أكثر من 212 بلدا ومنطقة حول العالم، لا يمكن القول إننا وصلنا إلى مستوى الذروة حتى الآن. تقول منظمة الصحة العالمية إن أغلب دول العالم لا تقدم أرقاما حقيقية ودقيقة عن الإصابات، وأشارت تقارير صحفية إيطالية إلى أن تحليل دماء المتبرعين الأصحاء فى أحدى بلدات إقليم لومبارديه المنكوب أثبت وجود أجسام مضادة للفيروس لدى 70% منهم. سواء صحت تلك المعلومات أم لا فالمؤكد أن المصابين الفعليين أكثر مما تحصيهم الأجهزة الصحية حول العالم!
ربما تبدو الحقيقة السابقة مطمئنة للبعض لدى مقاربة المشهد ومحاولة استشراف آفاقه المستقبلية، إذ المعنى الكامن فيها أن الوباء ليس خطيرا وقاتلا للجميع بالضرورة، وأن آلافا أو ملايين عبروه دون أن يشعروا أو تشعر أجهزة بلادهم. لكن على العكس من تلك الحالة المتفائلة فإن الأمر لا يدعو للاطمئنان، أولا لأننا لا نعرف الفيروس معرفة كاملة ومن ثمّ لا نملك دليلا على أنه قد لا يعود أو أن من تعافى منه بات مُحصنا من ارتداده مرة أخرى، وثانيا لأننا لا نعرف هؤلاء المتعافين المحتملين وبالتبعية نظل جميعا محل خطر قائم حتى من أُصيبوا وتعافوا بدون علمهم، والأخطر أنه حتى لو كانت الأعداد الحقيقية ألف ضعف الأعداد المسجلة حاليا، فهذا لا يمثل سوى 20% من سكان العالم، وما يزال مدى الوباء مفتوحا على 6 مليارات إنسان يمكن أن يكونوا مصابين فى المستقبل القريب!
عمليا لا يرتبط توقف الوباء بأية تدابير احترازية، بل إنها على العكس يمكن أن تكون سببا فى تعقد الأزمة مستقبلا. الاقتصاد العالمى لا يتحمل الإغلاق الواسع وطويل المدى، والمؤسسات الصحية لا تستطيع العمل بتلك الطاقة والوتيرة إلى ما لا نهاية، وفى محطة ما قد يُضطر الجميع إلى تقليص القبضة القمعية للظرف الوبائى، وهو ما قد يتسبب فى انفجار أو موجة حادة من الإصابات بفاتورة أكثر فداحة لأنها تأتى بعدما يكون الاقتصاد وهياكل الدول قد أُنهكت تماما. الحسابات جميعا معقدة، وبشكل مبسط يُمكن القول إن محطة توقف الوباء ترتبط بمُدخلات بيولوجية لا يُمكن استقراؤها أو التنبؤ بها، ومرحلة انحساره أو تحوله إلى مرض موسمى عابر لن تتحقق قبل اكتساب مناعة مجتمعية واسعة المدى (نحو 60% من البشر على الأقل) أى بعدما يُصاب قرابة 5 مليارات ويتعافون من الفيروس، أو بعدما يتعافون بدون إصابة!
الوباء بين اللقاح والدواء
التوقعات المتفائلة تتمنى أن تنقضى الأزمة خلال أسابيع، سواء بفعل ارتفاع الحرارة وجفاف الأجواء خلال الصيف، أو بآمال غيبية فى انحسار وتيرة العدوى حتى لو كان الرأى العلمى حتى الآن عكس ذلك. والتوقعات المتشائمة لا تكتفى بالإشارة لاستمرار الوباء إلى ما بعد منتصف العام المقبل فقط، وإنما تُبشر بتجدده فى موجات وبائية شرسة لعدة أعوام قبل أن يهدأ ويتخذ شكلا موسميا بسيطا كحال الأنفلونزا العادية حاليا. بين الاحتمالين يقف العلماء بدون قدرة على حسم الأمر حتى الآن!
إلى تلك اللحظة غير مقطوع بتسلسل طفرات "سارس كوف 2" أو فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19". العائل الأساسى للفيروس هى الخفافيش التى تمتلك خزانا ضخما من تلك العائلة الفيروسية، لكن العدوى البشرية لم تأت من خفاش!.. قالت الصين إن الفيروس انتقل للبشر من حيوان آكل النمل الحرشفى، لكن الدراسات المتوفرة أشارت إلى رصد تشابه بنحو 94% يُحتمل معه صحة تلك المعلومة لكن لا يُمكن الجزم بها، وحتى اللحظة أيضا تتضارب المعلومات بشأن الحالة "صفر" التى كانت أول إصابة بشرية، ونشرت وسائل إعلام صينية عديدة تقارير عن أكثر من ثلاثة أشخاص باعتبارهم الإصابة الأولى. فى المقابل تفاوتت الدراسات بشأن فترات نشاط الفيروس خارج خلايا العائل وعلى الأسطح المختلفة، وقال البعض إنه ينتقل فى الهواء، واختلف الأطباء فى الأعراض الإكلينيكية للمرضى، واختلفت الاستجابة للرعاية الصحية حتى مع تثبيت متغيرات الجغرافيا والطقس والعُمر والتاريخ المرضى. باختصار فإننا لا نعرف "كوفيد 19" حتى الآن كما يجب، وبالتبعية لا يُمكن أن تكون تنبؤاتنا بشأنه دقيقة تماما!
يُمكن أن يكون الوصول إلى دواء فعال فى مواجهة الأعراض السريرية وتخفيف آثار الفيروس ثم الشفاء منه، محطة مهمة باتجاه تقليص حدّة الوباء والهروب من تداعياتها الاقتصادية والسياسية والنفسية، ويُمكن أن يقود التوصل إلى لقاح "مصل تطعيم" لحالة اطمئنان واستقرار وقدرة على استعادة جانب من الحياة اليومية الطبيعية، على الأقل فى القطاعات الحيوية والمؤسسات الإنتاجية، لكن على العكس من التوقعات الإيجابية الملتزمة قدرا من المنطق، أو الآمال المدفوعة بحالة الخوف والبحث عن الطمأنينة ولو كانت زائفة، فإن الدواء واللقاح لن يكونا نهاية الوباء بالشكل الذى يتصوره البعض، ليس لأنهما سيفتقدان الفاعلية فى مواجهته وكبح جماحه، ولكن لأن معادلات الاختبار والإنتاج والكفاية لها ضغوطها، والأهم أن الأزمة ليست حربا تتوقف نيرانها تماما بالهدنة أو استسلام الفيروس تحت قصف المعامل ومصانع الأدوية!
خروج تدريجى وآثار ممتدة
فى الوقت الراهن يجلس قادة العالم وخبراؤه داخل المعامل والمستشفيات. يتصور الجميع أن الأزمة لن تنتهى بعيدا عن علوم الأوبئة والميكروبيولوجى والفارماكولوجى، ولكن على الأرجح فإنهم عمّا قريب سيبتعدون قليلا، ليس تجاوزا لآفاق الحلول العلمية، ولكن اقترابا من حيز الرؤية البانورامية والحلول المُتكاملة التى تُوازن بين اعتبارات العلم والاقتصاد وبين حياة الناس ومعيشتهم. أقرب السيناريوهات من المنطق أن تغادر أدمغة العالم أروقة المعامل لتعيد تخطيط الشوارع والساحات العامة، سيعمل الأطباء والعلماء والباحثون فى مسارهم المهم، ولكن سيلتفت الآخرون إلى مسارات مُعطّلة لكنها لا تقل فى الأهمية.
ستعود مجتمعات عديدة إلى الحياة بشكل تدريجى، مع إجراءات وقائية مشددة وقدر دائم من المخاوف. ربما يُعتمد مسار ألمانيا الداعى إلى إجراء فحوص واختبارات مناعية والسماح لمن يثبت أنهم أقل عُرضة للخطر بأن يعودوا للعمل ويُعيدوا ضخ الدماء فى شرايين الاقتصاد. تلك الرؤية قد تتوسع أو يجرى تعميمها مؤقتا، خاصة أنه حتى مع التوصل إلى دواء مضمون أو لقاح فعال فإن الأزمة لن تنتهى على الفور، ستظل المخاوف قائمة واحتمالات الخطر مفتوحة إلى أن يتأكد تجميد الظرف الوبائى، لتبدأ سلسلة الانحسار التدريجى المرتبطة بأولوية الدول والقطاعات ومن يحصلون على العقاقير المبتكرة ويعودون لحياتهم الطبيعية أولا.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الوباء، وحالة الهلع والشروخ النفسية التى أصابت ملايين البشر حول العالم، تؤكد أن محطة تحجيم الفيروس أو قمعه دوائيا لن تكون نهاية الأزمة. سيستغرق الأمر شهورا لترميم نفسيات المتضررين، وشهورا أطول لترميم تصدعات الاقتصاد، وربما سنوات لاستعادة الثقة فى المنظومة العالمية القائمة ومُعاودة الناس حياتهم بصورة طبيعية كاملة. الفترات الأولى ستشهد ارتباكا فى الرؤى، وطلبا شرها على السلع والخدمات، وارتفاعا حادا فى الأسعار مع تقلص المدخرات والفوائد وقدرة المؤسسات المصرفية على تنشيط ماكينة الاستثمار. تلك الآفاق المُحتملة تعنى أن وتيرة الخروج من تداعيات الأزمة ربما تكون أبطأ من تجاوز الوباء نفسه، وأننا قد نعيش مخاوف "كوفيد 19" وتأثيراته لسنوات مقبلة، حتى لو أغلقنا صفحة الوباء بعد سنة كما يتوقع المتشائمون، أو خلال أسابيع كما يُبشر المتفائلون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة