منذ عدة أشهر، مع تواتر الأخبار عن انتشار فيروس كورونا القاتل في الصين وما تلى ذلك من زيادة كبيرة في أعداد الضحايا، والمصابين، تزامنا مع حرب تجارية ضروس مع الولايات المتحدة، توقع قطاع كبير من المحللين والمتابعين أن الوباء الجديد سيكون ضربة قاصمة لطموحات بكين في السيطرة وفرض نفسها كقوى دولية بارزة، على حساب القوى الأمريكية المهيمنة بمفردها على النظام الدولى منذ عقود طويلة من الزمن، إلا أن الرؤى تغيرت بعد شهور قليلة، ليس فقط بسبب نجاحها في احتواء الأزمة الصحية في الداخل، في الوقت الذى فشلت فيه قوى أخرى معروفة بمكانتها العلمية والتكنولوجية، إلى جانب نفوذها السياسة والاقتصادي، في تحقيق النجاح نفسه، ولكن أيضا بسبب قدرة بكين على استغلال الأزمة لصالحها.
النجاح الصينى الكبير لم يقتصر على التحول من طرف مأزوم بسبب الوباء، إلى قوى مؤثرة تقدم يد العون للدول الموبوءة، وإنما امتد إلى نجاحها الكبير في التأثير على عالمها الخارجي، من خلال تحدى الإرادة الأمريكية في الكثير من الأحيان، عن طريق استغلال المعطيات الدولية المتاحة، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، سواء في الداخل أو الخارج، وهو الأمر الذى يمكننا اعتباره "فرصة الصعود إلى القمة من رحم الأزمة".
فعلى صعيد التحالفات الدولية، نججت بكين في وضع نفسها كبديل لأمريكا المتراخية عن دعم حلفائها، خاصة في أوروبا الغربية، من خلال نقل تجربتها الناجحة في احتواء الفيروس المتفشى لعدة دول، لتقدم نفسها كشريك قوى لدول تمثل عمقا استراتيجيا لواشنطن منذ عقود، وهو ما يحتاجه حلفاء الولايات المتحدة، في ظل السياسات التي تتبناها إدارة ترامب، والتي تعطى الأولوية للداخل على حساب الشركاء الدوليين، وهو ما بدا على العديد من الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية في السنوات الأخيرة، وساهم في توتر العلاقات بصورة كبيرة داخل أروقة ما يسمى بـ"المعسكر الغربى".
مساعى بكين لتقديم نفسها كبديل لأمريكا لم تقتصر على مستوى الدول، وإنما امتدت إلى المنظمات الدولية، ففي الوقت الذى أعلنت فيه إدارة ترامب تخليها عن منظمة الصحة العالمية، ووقف التمويل المخصص لها، قدمت الصين 30 مليون دولار، بعيدا عن اشتراكها كدولة عضو في المنظمة، لدعم الدور الذى تلعبه عبر حماية صحة الإنسان في العالم، وهو ما يقدم رسالة مفادها دعم الحكومة الصينية للمنظمات الدولية، في مواجهة ثورة ترامب الممنهجة عليها منذ اعتلائه سدة البيت الأبيض.
أما على مستوى الداخل، فلم تقتصر مكاسب بكين على مجرد تهدئة وتيرة الاحتجاجات المندلعة في الأقاليم ذاتية الحكم، وعلى راسها هونج كونج، وإنما امتدت إلى إحكام قبضتها عليها، عبر تعزيز سلطات الموالين لها داخل الإقليم، بالإضافة إلى تضييق الخناق على الحركات المناهضة لها هناك، كما استخدمت حالة الطوارئ الدولية في محيطها الجغرافى لتعزيز سيطرتها على المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبى، عبر زيادة قواتها العسكرية في المنطقة وبالتالي إحكام سيطرتها على المناطق التي تحظى بثروات كبيرة من النفط والغاز الطبيعى.
وهنا يمكننا القول بأن الحكومة الصينية نجحت باقتدار في تحويل منحة كورونا إلى محنة، عبر استخدامها لتحقيق أهدافها السياسية على المستويين الدولى والداخلى، باقتدار، وهو الأمر الذى ينبئ بميلاد قوى دولية مؤثرة، يمكنها مزاحمة الولايات المتحدة في السيطرة على النظام الدولى في عصر "ما بعد كورونا".