أمسك محمد رشدي بيدي فجأة. .أوقفني معه عن السير في شارع "الحسن" بحي المهندسين، ثم سأل بحسرة :"ليه كده يا عبدالناصر".؟
بدا السؤال تعبيرا عن غضب أو عتاب منه للزعيم الخالد جمال عبدالناصر، ولأني أعرف حبه الشديد له، وأعرف أن صعوده الفني ارتبط به، وأعرف أن قصة حياته الفنية كلها مرتبطة بقصة ثورة يوليو 1952 وزعيمها،
سألته متعجبا :"ليه يا أستاذ بتقول كده؟".
رد :"خلاني حلمت.. جريت ورا الحلم.. وفي الآخر غيرنا هم اللي كسبوا الملايين".
واصل رشدي كلامه.. طرح أسئلة كثيرة وحزينة.. كان صوته مبحوحا يغلفه شجن واضح كأنه يغني واحدة من أغنياته عن الزمن وتقلباته.. قال :"تفتكر التاريخ هيقول علينا إيه؟ ياتري الناس هتفتكر حاجة من اللي عملناها عشان البلد دي؟..حيفتكروا إن كنا بنتسابق علي تسجيل الأغاني مجانا وقت العدوان الثلاثي عام 1956 ووقت نكسة 5 يونية 1967؟ حيفتكروا إننا سافرنا لليمن عشان الثورة فيها، وللجبهة مع الجنود في حرب الاستنزاف ووقت حرب 6 أكتوبر 1973، وغنينا للقضية الفلسطينية، وغيرها وغيرها".
سألته: "تفتكر لو محلمتش كنت حتبقي إيه؟
رد:" كنت حبقي مسخ، بس أنا بفضفض".
كان في حالة شجن حلت عليه، بعد لقاء بواسطتي مع اثنين من أصدقائي يحبونه ويقدرونه في صيف 1990 هما الكاتب الصحفي الدكتور عبد الحليم قنديل، والدكتور عزازي علي عزازي محافظ الشرقية الذي استقال من منصبه بعد أكثر من عام علي شغله، فور الإعلان عن فوز محمد مرسي عن جماعة الإخوان برئاسة الجمهورية عام 2012.
كنت وقتها أعمل ضمن الفريق الصحفي بمركز "إعلام الوطن العربي–صاعد"، وكان ضمن نشاطه رسالة أسبوعية لمحطة تليفزيون أرضية في لبنان أسمها المشرق، كانت الرسالة عبارة عن شريط فيديو فائق الجودة معبأ بالأنشطة الثقافية والسياسية في القاهرة خلال الأسبوع ،وخضت خلالها تجربة أن أكون مذيعا لفترة قصيرة، سجلت فيها مع الدكتور محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر في حرب أكتوبر 1973، ومع محمد الجيار سكرتير جمال عبد الناصر، في مزرعته بالخطاطبة ،وكان تسجيلي مع محمد رشدي الذي وافق علي الحضور إلي "صاعد " للتسجيل، والتقي قبله مع "قنديل" و"عزازي"، ولما خرجت معه إلي الشارع لتوصيله بتاكسي إلي منزله، طرح سؤاله:"ليه كده ياعبد الناصر؟
جاء التسجيل التلفزيوني بعد فترة طويلة من التعارف بيني وبينه، بدأت بحوار معه عام 1986 لمجلة عراقية اسمها "ألف باء"..وأجريته في فيلته "أدهم" بالدقي، ويومها استقبل صديقيه الكاتب الروائي محمد جلال، والكاتب الصحفي والناقد الفني "حلمي سالم، وقدمني إليهما، وأذكر وقتها أن حلقات الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين"محاوراتي مع السادات" التي تنشرها مجلة "المصور" صباح كل أربعاء منذ يوم 22 سبتمبر 1986 كانت محور نقاش الحاضرين.. كان رشدي مندهشا من الأسرار التي كشفها "بهاء" عن السادات.. تحدث بحماس بالغ عما قرأه، يشاركه "جلال" و"سالم".. وكان هو أكثرهم حماسا في نقد السادات..قال :"اللي عايز يعرف حقيقة السادات يقرأ كلام بهاء".
مضت شهورا طويلة، وطلبت مجلة "الموقف العربي" التي تصدر من قبرص أسبوعيا برئاسة تحرير الكاتب والقاص والصحفي الليبي محمد الشويهدي من مكتبها"صاعد" تحرير مذكرات لشخصيات فنية رائدة، ففكرت فورا فيه، واتصلت به، ووافق..سجلت أكثر من ثلاث ساعات معه. ونشرتها في خمس حلقات في "الموقف العربي" من 8 يناير 1990، وبعد آخر حلقة حملت أعداد المجلة، وتركتها عند حارس الفيلا، وفي اليوم التالي اتصل بي علي التليفون الأرضي في"صاعد".. سألني بحرارة:"انت فين؟"،أجبت:"في شارع الحسن".. رد: "انت قريب مني، تعالي ،تعالي، متتأخرش".
احتفي بي كثيرا.. صعد بي إلي الدور الثاني من الفيلا، جلسنا في حجرة الصالون، لاحظت وجود عود مقاسه صغير معلق علي الحائط..سألته عليه، أجاب :"ده عود بليغ" عملته مخصوص له، عشان عنده كرش بسيط، بليغ الإلهام بيجي له في أي وقت وأنا لازم أكون مستعد له"..أبدي إعجابه بما كتبت وشاركه ابنه أدهم في ذلك، قال :"انت مسكت خيط مهم في حياتي..ربطت بين صعودي الفني والبيئة السياسية والاجتماعية اللي كانت بتمر علي مصر، انت قلت إن محمد رشدي مش مجرد موهبة بتغني وبس، لكن هو بيغني وفاهم بيغني إيه، وعنده وعي بقضايا بلده.. أضاف:"انت ركزت علي الجوانب دي في رحلتي، في الوقت اللي مفيش حد بيفتكرها، الكلام دلوقتي عن فضايح وبس زي ماحصل مع بليغ حمدي في حكاية سميرة مليان.. الصحافة بهدلت بليغ، اتعاملت معه وكأنه بيدير بيت دعارة، كأنه عاهر..مسحت تاريخه بأستيكة، ونسيت إنه هو اللي شال المزيكا في مصر علي أكتافه..بليغ كان بيبكي بدل الدموع دم وبيتقطع كل يوم وهو بيشوف الجرائد بتنهش في لحمه، واضطر للهرب إلي أوربا، وهو حاليا بيتنقل من بلد لبلد، لكنه محروم من بلده اللي روحه فيها..أنا كلمته عن اللي انت كتبته في حلقاتك علي لساني عن دوره معايا، كنت عاوزه يفرح، ويعرف إن فيه ناس بتكتب عن قيمته العظيمة، وقيمة محمد رشدي وعبدالرحمن الأبنودي، أنا قلت له..يابليغ، مفيش حاجة حلوة بتموت، وانت عملت الحلو كله.. قلت له: هتعيش يابليغ لفنك، اصبر يابليغ..هانت وإن شاء الله الظلم هيترفع عنك".
كان قضية بليغ واتهامه في قضية سميرة مليان وقتئذ في محكمة النقض للنظر في الحكم الصادر ضده بحبسه سنة مع الشغل وكفالة ألف جنيه لوقف التنفيذ، ووضعه تحت المراقبة سنة، وسافر بليغ قبل النطق بالحكم، وظل في الخارج 5 سنوات، وعاد يوم 24 نوفمبر 1990 قبل سقوط الحكم بالتقادم، وفي اليوم التالي قضت "النقض" ببراءته
تلك هي وقائع القضية التي أغضبت رشدي من تغطيتها إعلاميا، وأعجبه أنني لم أتأثر سلبا بها وأنا أكتب عن رحلة بليغ معه، وفاجأني بقوله:"احنا هنعمل تسجيل من جديد لقصة حياتي، نذكر فيه كل الوقائع من البداية، علشان تكون أمامك الفرصة لنشرها كاملة في كتاب".."سألته بلهفة :متي نبدأ؟..أجاب:"النهاردة الأحد يبقي نبدأ الاثنين"..وبدأنا.
ترددت عليه مرتين وثلاثة أحيانا في الأسبوع، لم يكن اللقاء تسجيلا لقصة حياة وفقط، وإنما كان يمتد إلي جوانب إنسانية أخري.. يحدثني في كل شيء عن فنه وأبنائه وهمومه، يطمئن بأبوية علي أحوالي ..كنا نتناقش في أمور السياسة التي تشغله دائما محليا وعربيا، ومنها إلي قضايا الفكر.. ومع ترددي عليه، عرفته بارا بأهله في دسوق..في إحدي زياراتي وأنا معه في حجرة الاستقبال بالدور الأرضي، دخل عليه شاب طيب قادما من داخل الفيلا، كان يرتدي نظارة طبية، قدمه إلي قائلا :"ماهر ابن أختي صابرية، أخصائي اجتماعي"، قبل ماهر خاله مودعا :"عايز حاجة ياخالي"..رد: "تسلم ياحبيبي، سلم لي علي أمك وخلي بالك منها"، وناوله عدة أظرف مغلقة، كل ظرف مكتوب عليه اسم معين، قائلا له:"إنت عارف".. رد:"ربنا يكرمك ياخال ويعطيك الصحة والستر والرضا".
انصرف ابن الأخت، لكن أثر الدعاء كان باديا علي وجه الخال الطيب، الذي قال لي:"اخواتي البنات انشراح وصابرية وعفاف أنا أبوهم بعد أبويا، وأمهم بعد أمي..ربنا يرحمك يا أمي، بأعوض حرماني منها برضاهم عليٍ..من فترة سألت أختي إنشراح :"هي أمي سمعتني في الإذاعة يا انشراح.. أجابت :لأ يا أخويا ..كان نفسي تقول لي إنها سمعتني، عشان تطمئن علي ابنها".
في سرده لقصة حياته، كان يتحدث بفخر عن بيئته الفقيرة التي نشأ فيها بمدينة دسوق بكفر الشيخ وانتماءه الأصيل لها، وتتحجر دمعة في مقلتيه حين يتذكر عذاب أمه في حياتها وبكائها أثناء غنائها له وهو طفل في حجرها.. كان ينتقد نفسه بغضب من تلك المرحلة التي عاشها ضائعا تائها بينما عبدالحليم حافظ يصعد بسرعة الصاروخ وهما أبناء جيل واحد حتي انطلق مع موال أدهم الشرقاوي ثم أغنية "تحت السجر ياوهيبة" وتوالت بعدها صواريخه "عدوية" وعرباوي " و"حسن المغنواتي"،فهدد عرش عبد الحليم.
كان يؤكد أنه هو كما هو الفلاح الذي جاء من دسوق إلي القاهرة، ويتألق وهو يتحدث عن كاتبه المفضل عباس محمود العقاد، لم يكن يمل من مناقشة كتابه "إبراهيم أبو الأنبياء".. أدهشني بقدرته علي مراجعة هذا الكتاب صفحة صفحة، فاجأني بشراء نسخة منه أهداها لي ومازلت أحتفظ بها في مكتبتي.. أعطته تجربته في الحياة قدرا كبيرا من الصفاء النفسي، فرواها لي بتأمل، كان رائعا في الحكي، مدهشا في سرد التفاصيل، يتحدث عن طفولته وهو في شيخوخته، وكأنها وقعت بالأمس لا يفصله عنها سوي عقلة إصبع.
عرفت منه أسرار تاريخ شهد أعظم التحولات في الأغنية العربية في القرن العشرين، وكان نصيبه فيه عظيما بأن أصبح له لونا غنائيا متفردا اصطلح علي تسميته بالأغنية الشعبية التي أصبح لونها ومذاقها مختلفا بفضله.. وعرفت منه تاريخا فيه أم كلثوم، محمد عبدالوهاب، رياض السنباطي، زكريا أحمد، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، فيروز والرحبانية، محمد قنديل، كارم محمود، كمال الطويل، محمد الموجي، بليغ حمدي، محمود الشريف، محمد عبد المطلب، فايزة أحمد، نجاة، شادية، سعاد محمد، وردة الجزائرية، نجاح سلام ، محرم فؤاد، صلاح جاهين، عبد الرحمن الأبنودي، كل هؤلاء وغيرهم.. تحدث معي عن عبد الناصر الذي أحبه، وعن السادات الذي لم يحبه، وهاجر بسببه من مصر، وكانت حصيلة التسجيلات معه ساعات طويلة، ستظهر في كتاب قريبا
تمني مرة أن يجد ملحنا جديد يتعاون معه، فحدثته عن الفنان الصديق أحمد إسماعيل كموهبة فنية واعدة في الموسيقي فطلب مني أن يسمعه، واصطحبت أحمد إليه ومعه عوده في فيلا أدهم، وغني أمامه ألحان "ياعم ادريس" و" ياتوت بلدنا" و"طوبة حمرة وطوبة"، ودار بيننا حوارا ثريا قدم فيه نصائح ثمينة إلي الموهوب الشاب أحمد إسماعيل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة